Site icon IMLebanon

يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!

لقد صارت مهمةً من العبث العابث، إذا صحَّ التعبير، وأعني بها مجادلة الإيرانيين بشأن تنظيماتهم المسلَّحة في أربع دولٍ عربية. ولو اقتصر الأمر على الإيرانيين وأنصارهم الطائفيين والمذهبيين لقلنا إنَّ هؤلاء إنما هم مثلنا عندما كنا نندفع في دعم المقاومة الفلسطينية في الستينات والسبعينات، باعتبار أنَّ للقضية الفلسطينية أولويةً على كل ما عداها. وقد كنا نعترف بأخطائها أحيانا دون أن نُرتّب نتائج على هذا الاعتراف، أو لا نعترف على الإطلاق، ونعتبر كلَّ نقدٍ جزءًا من المؤامرة الأميركية والصهيونية على «المقاومة» والتحرير! ولا أزال أرى حتى اليوم، أنَّ ما أصابنا وأصاب الفلسطينيين ليس ناجمًا عن أخطاء المقاومة بالدرجة الأولى، بل عن أمورٍ ثلاثةٍ أخرى، وأخطاءُ المقاومة رابعُها. الأمر الأول: التفوق الصهيوني العسكري والاستراتيجي. ولا ينبغي أن ننسى أنَّ الولايات المتحدة حليفة إسرائيل كانت تتجه للانتصار في صراعها مع الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. والأمر الثاني: إنه ما كانت هناك استراتيجية عربية لمواجهة الصهاينة بعد عام 1973، بل عهدوا بالأمر عمليًا بعد حرب عام 1967 إلى الفلسطينيين وحدهم، وراحوا هم يهادنون أو يتصالحون مع إسرائيل من أجل استعادة الأرض التي فقدوها في زمن الدول العسكرية التقدمية. والأمر الثالث: اتجاه دول الممانعة والمقاومة وجبهة الصمود إلى أخذ وظائف من الولايات المتحدة بشأن استيعاب المقاومة الفلسطينية وقوى التحرر أو التمرد العربي الأخرى. وما كان ذلك بالطبع للحرص على التصالح مع الولايات المتحدة فقط؛ بل ولأنَّ الحركات التغييرية تلك، والتي كانت لها علاقات بالفلسطينيين، كانت مزعجةً للأنظمة العسكرية والشمولية العربية. وبذلك تلاقت المصالح بين الطرفين أو الأطراف. ولو لم يحصل ياسر عرفات على لجوء في تونس بعد خروجه من لبنان عام 1982 بناءً على توافق دولي، لربما كان عليه أن يقصد إندونيسيا أو تايلاند مثلاً، ليس لمكافحة إسرائيل من هناك؛ بل للابتعاد عن قبضة ومظلة حافظ الأسد الذي صار هو وابنه بشار مؤتمنين منذ أكثر من عقدين عند إيران و«القوميين العرب» الأشاوس على فلسطين وعلى سوريا ولبنان والعراق، قتلاً لمئات الآلاف، وتهجيرًا للملايين الذين يكون على الباقين أحياء منهم الآن إعادة انتخاب بشار الأسد للرئاسة لكي تستمر المقاومة والممانعة بهذه الطريقة المحببة لإسرائيل وأصدقائها منذ احتلال الجولان عام 1967!

لقد قلت إنه لو اقتصر الأمر على دعاوى ومقاتل إيران وأتباعها لما كانت هناك فائدةٌ في الرد. وسأعود لشرح لماذا لا فائدة في محاججة الإيرانيين وأنصارهم الطائفيين والمذهبيين. أما قبل ذلك فأُريد توجيه النظر إلى الخواء الفكري والقومي والاستراتيجي والإنساني الذي يُعاني منه بعض «القوميين» العرب القُدامى، وبعض اليساريين العرب القُدامى والمحدَثين وبعض الإعلاميين العرب الكبار. فكثيرٌ من هؤلاء وباسم «العروبة» المنتهكة، يقفون مع بشار الأسد. ويزداد بعضهم ممانعةً ومقاومةً فيعمل عند نصر الله أو إيران مباشرةً بحجة أنَّ هؤلاء قاتلوا إسرائيل، وأنهم الآن يدافعون عن النظام القومي العربي الأخير في سوريا! يقول هؤلاء عندما نتظاهر بالاستفهام منهم عن موقفهم: هل تريدني أن أقف مع «داعش» و«النصرة»؟ ونقول لهم: بل نريدكم أن تقفوا ضدّ كل القتلة في سوريا والعراق ولبنان واليمن والسودان والصومال! ويقولون: إنَّ المقصود ليس المواقف الإعلامية والإعلانية، بل السياسات الحقيقية! ونقول لهم: تمامًا، هذا هو المقصود. هذا بشار الأسد قتل زهاء الربع مليون، وشرَّد وجوَّع الملايين. فالمطلوب العمل على الخلاص منه ومن نظامه. وهذه إيران قتلت وتقتل في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وأنتم باعتباركم عربًا وقوميين ودعاة ديمقراطية، يكون عليكم إقامة الجبهات والتحالفات لوقف القتل، والسعي لمرحلة انتقالية في سوريا توقف سفك الدم، وتغيّر النظام القاتل ولو بالتدريج. ثم إنكم قوميون عرب كما تصرحون: فلماذا تسكتون عن التدخل الإيراني لقتل الناس طائفيًا، وتثبيت نظامي اليهمنة الطائفية في العراق وسوريا؟! ويتهربون من الإجابة، ويحيلونك إلى قتال حسن نصر الله لإسرائيل. ونقول لهم: لكنه الآن يقاتل في سوريا ضد الشعب السوري، فعلى سبيل الإنصاف: حيوا موقفه تجاه إسرائيل، وادعوه لسحب مقاتليه من سوريا! ويتلبثون قليلاً في الإجابة ثم يعودون لمهاجمة الثقافة غير الديمقراطية في الخليج، وأنَّ الشعب السوري غير مهيأ للديمقراطية. ثم يعودون فيحيون دول الخليج لإدانتها الإسلام السياسي ولقائها «العملي»، كما يقولون مع الرئيس الأسد! ويذكّرون أخيرًا بأنهم لا يريدون أن يصيب بشارًا ما أصاب صدّامًا! ونقول لهم: كلامكم لا يركب بعضه على بعض؛ نحن العرب – قوميين وغير قوميين – مدعوون للحفاظ على وحدة بلداننا واستقرارها. ولا وحدة ولا استقرار مع الأسد والبشير. وهذا فضلاً عن شرذمة المجتمعات إلى شيعي وسني من جانب إيران وأتباعها، ومعظمهم داخلٌ في هذه المعمعة ضد حياة الشعوب العربية ووحدتها. عندما ذهب صدام لمقاتلة إيران ونهضتم لنصرته، قال لكم كثيرون من غير القوميين: هذا خطأٌ كبيرٌ لن تنجو أمتنا من عواقبه! وكان عذركم الوحيد أنه لو لم يَغْزُ صدام إيران لغزَته! فماذا عدا مما بدا حتى ترحّبوا بالغزو الإيراني للدول العربية؟! أنتم تعرفون أنه لا «حزب الله» ولا إيران سيعودان لقتال إسرائيل، بعد استجابة الولايات المتحدة للصفقة الكبرى على فلسطين والنووي والعراق… إلخ.

عندنا نحن العرب ثلاث مشكلات مع مثقفينا وسياسيينا القوميين والتحديثيين والتقدميين: المشكلة الأولى أنهم قعدوا في ظلّ العسكريين والأمنيين والشموليين العرب على مدى العقود الأربعة الماضية، وهم لا يريدون فراقهم، ولو كان ثمن بقاء هؤلاء قتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين. والمشكلة الثانية أنهم كشفوا هم وبعض كبار الإعلاميين العرب عن كراهيةٍ لعروبتنا وعربيتنا وديننا وثقافتنا. فهم لا يتصورون مستقبلاً للعرب من دونهم رغم تقدمهم في السن، واستمتاعهم بإذلالنا والترؤس علينا طوال العقود الماضية. والمشكلة الثالثة أنه يبلُغُ من ثأريتهم وخوفهم من حركات التغيير أنهم مستعدون للعمل عند إيران وعند إسرائيل وعند روسيا والصين.. وأميركا، لكي لا يبقى التغيير ممكنًا. هم يذكرون «داعش»، ويذكرون «الإخوان»، ويذكرون عدم التأهل للديمقراطية. لكنهم لا يتذكرون العدوان الهائل على الشعوب والبلدان والدول والمجتمعات. فليست المسألة أننا نأخذ عليهم النقص في عروبتهم وأحاسيسهم القومية؛ بل نأخذ عليهم النقص في آدميتهم وإنسانيتهم والسوية الأخلاقية الضرورية للبشر!

وأخيرًا: لماذا ما عاد مفيدًا مجادلة الإيرانيين وأتباعهم الطائفيين في العالم العربي؟ نحن مقتنعون بأنَّ الدولة القومية الإيرانية قبضت على عنق شبان المذهب الشيعي وأطلقتهم للتخريب في الدول العربية. أمّا التنظيمات التي ينخرط فيها هؤلاء الشبان، فلها خطابان (مثل الإيرانيين الذين يقودونهم تمامًا): الخطاب العلني الموجَّه للعالم ولقوميينا وتحديثيينا وتقدميينا الأشاوس يتحدث عن الممانعة والمقاومة وقتال إسرائيل وتحرير فلسطين، ومكافحة الإرهاب، وشعبية بشار الأسد الزاخرة والمؤامرة الكونية عليه (كما قال حسين عبد الأمير عبد اللهيان مساعد وزير الخارجية الإيرانية). والخطاب الآخر المذهبي الذي يُدرَّسُ للكوادر في لبنان والعراق واليمن والكويت وأفغانستان، ولا أدري أين وأين أيضًا: أنَّ التشيع في صعود، وأنه يمكن قهر السنة الذين يسود في صفوفهم التكفيريون، وأنَّ الفرصة ينبغي انتهازُها لإنهاء أسطورة العرب والأكثرية السنية، وبخاصة أنَّ أميركا والغرب هم مع إيران في مكافحتها للتشدد، وهذا فضلاً عن ترحيب الأقليات الإسلامية وغير الإسلامية في العالم العربي بالمظلة الإيرانية الحامية، وإقبال الجمهور العربي أيضا على التشيع حبًا لآل البيت!

بشار الأسد ذاهبٌ إلى «انتصار» في غياب الشعب السوري وحضور جماعة أبي الفضل العباس. والمالكي ذاهب إلى انتصار بحضور «داعش» وغياب سنة العراق. والحوثيون يتقدمون باتجاه صنعاء لنُصرة البطنين وليس البطن الواحد من آل البيت:

وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ

فمن العجز أن تموتَ جبانا