Site icon IMLebanon

يوم أستحق حمل اسمه …

 

إنه سبت النور. الوقت الأفضل، أو حتى الوحيد، للتفكّر فيك. أمس كان صلبك والجلجلة والآلام. لا مكان للعقل أمام انشطار قلب مريم. لا مجال للتأمل أو التحليل وسط الخوف وشعور الهزيمة وحال الانكسار. أمس كنتُ واحداً من القانطين، من قليلي الإيمان. يجرفني دمعي صوب العلية.

أختفي وأخفي وجهي بين ناكر وخائن ومشكّك وهارب. أتسقط من خوفي ومخبأي أخبار موتك. قيل لي إنك لم تجد غير يوسف الرامي، ذاك الذي لا تعرفه ولا يعرفك ولا نعرف من هو. جاءك وحيداً يمسح دمك المتخثر، وهو يردد لك «قدوس أنت يا الله، قدوس أنت يا قوي، قدوس أنت يا من لا يموت». ترى من أين استقى إيمانه في لحظة انكسارك وهو الغريب، فيما أنا المؤمن العارف هارب مع رسلك. كم أغبطه يوم الجمعة، وكم ننساه يوم الأحد…

غداً تكون قيامتك. تضيع الأفكار في احتفالية المنتصرين بك ومعك. تنتسى هواجس الأمس ومراجعات القلق والشك وإعادة القراءة. غداً أنسى كل خوفي وضعفي ودناءتي ومذلّتي ونزواتي وأدران عقلي ونفسي… وأحتفل معهم لأنسى وأسكت.

لم يبق لي غير اليوم السبت لأسألك وأتساءل معك: تُرى، لماذا فعلت كل ذلك؟ لماذا تلك المغامرة والمقامرة، منذ قانا، أو منذ 33 عاماً، بل منذ ألفي سنة، بل منذ البدء؟ لا أجد في كل ما فعلتَ غير معنيين اثنين يصمدان معي اليوم. أنك نزلت من فوق لتكون معي بالتجسّد. وأنك رفعتني من هنا لأكون معك بالفداء. هذا كل ما يعنيني منك ومن مسيحيتك. هذا كل ما يبقى لي من تدبيرك ومن رسالتك ومن لاهوتك وناسوتك ومن كل تعليم جئت به أو جيء به بعدك باسمك. أنك صرت معي إلهاً إنساناً على هذه الأرض بالميلاد. وأنك صيرتني بجلجلتك إنساناً غالباً للموت، منتصراً على التحت مؤهلاً للفوق، معك بالصليب. كل ما حفظته منك، أنك معي كل لحظة، وأن علة وجودك ووجودي في أن أكون معك كل لحظة. وهي مأساتي وخطيئتي الكبرى.

اليوم أدرك كم فشلت وكم سقطت وكم خذلت وخُذلت. أن أحمل اسمك يعني أن نكون معاً هنا والآن. لا في سماء موهومة ولا في لجّة موت مهجوسة. أنا أفهم مسيحيتك أن سمائي هنا، وأن ناري هنا. جنتي وجهنمي ومطهري وكل ما أنا وما أنت هنا والآن. ألست أنت من قال لأبيك حين اقتربت من بستان الزيتون: لا أطلب أن ترفعهم عن هذه الأرض، بل أن تحفظهم من الشر؟! ألست أنت من لم يفهموا كلامك حين قلت لهم إن مملكتك ليست «من» هذا العالم. فتوهموا أنها ليست «في» هذا العالم. ألست أنت من أوصاني بالخفّ والسيف لزمن الخوف ومسير الخطر؟! ألست أنت من جسّدت لي بالمثل والقدوة والنموذج والحياة والموت، أن ملكوتك هو أن أواجه بيلاطس هذا الزمان، وأن أعري قيافا وعائلته وعائليته، وأن أهدم مؤسسة الهيكل وأن أصنع سوطاً مما توفر فأقلب وأطرد وأضرب، وأن أقاتل المحتل بالكلمة وأقتل احتلال نفسي بالنعمة؟ ألست أنت من علّمني أن سمائي الآن وهنا، حين أدرك وأؤمن أنك لست غير قائد الفقراء وزعيم المرضى ورب المقهورين ومخلّص المنبوذين وإله البؤساء ومسيح المظلومين. هم كل كنيستي. لا من يرفل بالذهب، بل من يكون الذهب في قلبه والخشب على صدره، كما قال فولناي عن أبنائك آبائي يوماً. هم كل بيعتك وأهلي، لا من يتدثر بالأرجواني، بل من يضجّ بقاني الكرامة والحقيقة. اليوم أدرك، وأجرؤ أن أدرك، أن كل كنيستك ورسالتك وثورتك في فرح فقير وبسمة طفل، هنا والآن. لا في زمان آخر ولا في أرض أخرى، ولا في أن «الشاطر يخلص نفسه» كما نُسب إلى ذاك الذي لا أعرف كيف جعلوه قديساً. ولا في أن أوصد بابي دون أمي لأصير معك كما فعل قديس آخر، فيما وجه أمي بعض من ملكوتك الأجمل، تماماً كما رأيت أنت وجه أمك…

اليوم، بين صلبك وقيامتك، أدرك كم أنني عاجز ساقط لا أستحق أن أحمل اسمك. فيوم أقف في وجه ذاك الرئيس وأقول له حقيقته بأنه مزوِّر مزوَّر وكاذب، أستحق حمل اسمك. وحين أواجه ذاك الزعيم وأكشف له بداهته بأنه كذبة جوفاء ووهم خاوٍ، أستحق حمل اسمك. حين أجرؤ فأقول لذاك السياسي أنه سارق ناهب حرامي، ولو كلفني ذلك لقمة طفلي وكل كراسي الأرض، أستحق حمل اسمك. حين أدل على ذاك القاتل المتسلسل، وأصرخ في وجهه أن كل أيامه الباقية لا تكفيه كفّارة للدم الذي على يديه، فكيف يتسلى بعد بالتسلق إلى أعلى على جثث ضحاياه… حين أنظر إلى حديث الثروة والغفلة ذاك، وأكرر له في عينيه أنه سيظل في ذاته، وفي عين الحقيقة وفي عيني بالتالي، مجرد تاجر رقيق معاصر معولم يلحن بكل لغات الأرض ولا يجيد إلا لغة الخبث والانتهاز والوصول… حين أكتب عن ذاك «البوليسي» أنه بين حدّين اثنين لا غير، بين الخزمتشي والفاسد… حين أعلن لطبقة سياسية مالية كاملة، أنكم قد جعلتم خبز أهلي وسيلة لسلطتكم وكرامة ناسي سلعة مطية لأسمائكم وألقابكم وأرقامكم… حين أقدر على كل هذا، والأهم الأهم، حين أقدم عليه بلا حقد، بل بكل المحبة لوجه يسوع المصلوب في كل من هؤلاء، وبكل الغضب والرفض لعقل البنطي في قلوبهم… عندها فقط أستحق حمل اسمك.

اليوم سبت النور. بين جمعة الجلجلة وأحد القيامة، أعطني يسوع يوماً ما، أن أستحق حمل اسمك، هنا والآن، أمين.