في تحليل أوّليّ لحالة الفراغ الرئاسيّ التي نعيشها، يظهر خط عريض، وهو أن قادة الموارنة أنهكتهم صغارات التعاطي السياسيّ، والنزعة التكسّبية في السلطة، بعدما تملّكهم هاجس الوصول إلى سدة الرئاسة، وبات كل صاحب موقع يتصرّف كأنه صاحب الحق الأوحد في الوصول إلى قصر بعبدا، وكأن كرسيّ الرئاسة رهينة لأشخاص، وإرث محفوظ لورثة معينين. هذه الصورة تشي بأن العشب سينبت على طريق بعبدا قبل الاتفاق على رئيس، ولكنّ لدى فئة كبيرة من اللبنانيين اقتناعاً بأن ثمة دوراً إنقاذياً لا يمكن أن يؤدّيه أحد غير العماد ميشال عون شخصياً لمنع إطالة أمد الفراغ في الموقع المسيحيّ الأول.
لا ينكر عاقل، أنه يحق للعماد عون الذي نعِم بتزكية مسيحية لم تُتَح لأي زعيم ماروني آخر ألاّ يتخطّى الـ«أنا الرئاسية». وكما تفرض الطائفة الشيعية «نبيهها» على المجلس النيابي، وتحرد الطائفة السنية لدى تغييب «سعدها» عن رئاسة الحكومة، يحق للطائفة المارونية أن تُدخل زعيمها القصر، ولكن شريط فرص العماد عون الضائعة يُنبئ بضرورة إيجاد خطة بديلة كي لا يبقى القصر طويلاً في عهدة فخامة الفراغ.
فانتخابات العام 2005 النيابية التي رفّعت عون إلى مصاف المرشح الأوحد لرئاسة الجمهورية، لم تشفع له بالوصول إلى قصر بعبدا وتحقيق حلمه المشروع، بسبب الفيتو الجنبلاطي الحريري عليه، الذي فضّل ميشال سليمان، برغم ضحالة شعبيته أمام «التسونامي» العوني. وإذا كان تجديد الوكالة الشعبية لعون في انتخابات العام 2009 النيابية لا يزال ساري المفعول إلى اليوم، فإن الثنائية التي اعترضت طريقه إلى بعبدا في العام 2008 لا تزال على موقفها، وما إدراك عون أن السندين المسيحي والشيعي لا ينتجان رئيساً، ومحاولته مد جسور تواصل مع الحريري، إلاّ فرصة إضافية من فرصه الضائعة. ففسحة الأمل التي كان يعوّل عليها العماد عون ذابت، وعملية رص الصفوف خلفه في تقاربه مع الحريري تلاشت، ولكن ما صحّ في انتخابات 2008 الرئاسية لناحية إسناد كرسي الرئاسة لشخصية على غرار ميشال سليمان لن يتكرّر حتماً في انتخابات 2014، لأن أقدام العماد عون باتت أكثر التصاقاً بالأرض، وبالتالي اقتلاعه بات أمراً مستعصياً، وهذا يعني أنه لا انتخابات رئاسية من دونه، وموقفه مفتاح الحل والعرقلة في آن واحد. فهل يلعب دوراً إنقاذياً أبعد من صراع الكراسي ويتحوّل من كبير المرشحين إلى كبير الناخبين؟
يستطيع العماد عون اليوم أن يقرّر من سيكون الرئيس المقبل، من خلال وضع رصيده النيابي في تصرّف اسم لا ينتقص من هيبة الرئاسة ولا تهمه الرئاسة ولا تعنيه إلاّ بقدر ما تهمه الجمهورية وتعنيه، ولا يحمل مشاريع مناكفة ويرضي «8 و14 آذار».
هذه المواصفات هي أقرب إلى قائد الجيش العماد جان قهوجي لأسباب عدة: هو الأقدر على دك تحصينات الفريقين المتصارعين، لأنه ملتزم بخط المقاومة ومتشبث بمنطق الدولة، فضلاً عن طبيعة المرحلة الأمنية، لأن الإرهاب لن يقف عند أعتاب العهد الجديد.
يتطلّع المسيحيون لوصول رئيس قوي، وفي هذه الرغبة المسيحية ما يعبّر عن خيارين: إما رئيس يتمتّع بتمثيل مسيحي كبير، وفي ذلك ما يؤدي إلى «خسارة» فريق مسيحي آخر. وإما رئيس يتمتّع بشخصية قوية وقادرة على التعبير عن تطلعات المسيحيين ويمتلك القدرة على إعادة الوزن السياسي إلى رئاسة الجمهورية. علماً أنه في العقل المسيحي يمثّل قائد الجيش مركز الثقل الماروني تاريخياً، وهو يمكنه اختراق باقي الطوائف اللبنانية.