ربّما كان مفيدا في هذه الأيّام النظر إلى ما هو أبعد من إنتخابات رئاسة الجمهورية وإلى ما هو أخطر من الفراغ الرئاسي. قد يكون مفيدا التركيز على ما يتعرّض له لبنان ككلّ، أي كدولة مستقلة، أقلّه نظرياً، تسعى إلى ايجاد مكان لها على خريطة الشرق الأوسط من جهة، وتأمين حدّ أدنى من الرفاه والحرية والكرامة لشعبها من جهة أخرى.
هذا لا يعني بأي شكل أن انتخابات رئاسة الجمهورية غير مهمّة. على العكس من ذلك، لهذه الإنتخابات أهمّية استثنائية، لا لشيء سوى لأنّه تنفّذ من خلالها محاولة أخرى للقضاء على الوطن الصغير.
لا حاجة إلى الحديث طويلا عن المخاطر التي يتعرّض لها لبنان. تكفي قراءة سريعة في الخطاب الأخير للأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله للتأكد من أن البلد مستهدف. كلّ ما فيه بات مستهدفا، بدءا برئاسة الجمهورية وصولا إلى آخر موقع في الدولة.
كشف الخطاب واقعا جديدا. يتمثّل هذا الواقع في أنّ «حزب الله»، الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، يعتبر لبنان في جيبه. تجاوز «حزب الله» لبنان. للمرّة الأولى في تاريخ البلد، هناك مَن يقول إنّه يحمي الدولة والمؤسسات ورئاسة الجمهورية والكيان. هناك مَن يعتبر الدولة مشاعاً له يستطيع أن يفعل بها ما يشاء ساعة يشاء بالطريقة التي يشاء وبالوسائل التي يختارها.
يبدو الخطاب الأخير للأمين العام لـ»حزب الله» أخطر خطاباته بكلّ المقاييس. تجاوز عبر هذا الخطاب كلّ الحدود وليس حدود البلد فقط. أكّد أن لا رئيس جديدا للجمهورية إذا لم يكن هذا الرئيس يمتلك مواصفات معيّنة وضعها له الحزب، أي ايران التي تحدّد له سياسته وما يجب أن يفعله داخل لبنان وخارجه.
بات على رئيس الجمهورية أن يكون مثله مثل أي نائب لبناني مسيحي في قضاء جزين أو النبطية أو مرجعيون أو المتن…أو جبيل، وحتّى كسروان، حيث لا يمكن لمرشح الفوز في الإنتخابات من دون أصوات «حزب الله» أو توابعه. هناك بالطبع، استثناء اسمه قضاء المتن الشمالي الذي استطاع فيه بعض النوّاب، مثل سامي الجميّل منع الحزب من احتكار التمثيل النيابي لهذا القضاء…وهناك نوّاب أحرار يمثّلون الضمير المسيحي واللبناني في آن. هؤلاء ينتمون إلى الأقضية التي لا نفوذ فيها على الأرض للحزب.
يندرج ما نشهده حاليا من اعتداء موصوف على مؤسسة رئاسة الجمهورية في سياق سياسة مدروسة تصبّ في الغاء لبنان لا أكثر ولا أقلّ. هذا الكلام ليس مبالغة بمقدار ما أنّه يعكس واقعا بدأ يتبلور في اللحظة التي قرّر فيها «حزب الله» الإنخراط إلى أبعد حدود في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه.
تورّط الحزب في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري بعدما طلبت منه ايران ذلك. هذا كلّ ما في الأمر. كان مطلوبا منه التورّط في تلك الحرب بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه حاليا أو الذي سيضطر إلى دفعه عاجلا أم آجلا.
شكّل دخول الحزب عسكريا إلى سوريا ضربة لكلّ ما بقي من سيادة لبنانية وحدود معترف بها بين دولتين عضوين في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة. جاء التدخل إلى جانب قوات النظام السوري من منطلق طائفي ومذهبي. وضع الحزب الإنتماء المذهبي فوق أي انتماء آخر بمجرّد أن ايران طلبت منه ذلك. هذا تطوّر جديد على صعيد الشرق الأوسط كلّه.
كان ذنب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أنّه اعترض على تصرّفات الحزب والتزم الدستور، الذي أقسم على احترام نصّه، فكانت النتيجة حربا شعواء عليه. امتدت هذه الحرب الآن إلى تأديب المسيحيين جميعا عبر التأكيد لهم أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون مثل أيّ نائب ماروني من جزّين أو المتن الجنوبي أو جبيل أو بعلبك أو الهرمل. أي يفترض برئيس الجمهورية أن يكون مجرّد موظّف، برتبة نائب، يعمل لدى «حزب الله» ويسعى في كل ساعة من ساعات النهار إلى استرضائه وحتّى المزايدة عليه عندما يتعيّن اتخاذ الموقف المطلوب إتخاذه.
قرّر «حزب الله» أن يكون هو الدولة. حيّد السنّة موقتا عن طريق موافقته على تشكيل الحكومة الحالية برئاسة تمّام سلام، الشخصية الوطنية التي تتمتّع باحترام واسع في معظم الأوساط. أراد عمليا التفرّغ لمعركة رئاسة الجمهورية ومن خلالها لمعركة أكبر بكثير تتمثّل في المشاركة في اعادة رسم خريطة المنطقة.
كيف يحصل ذلك؟ إنه يحصل عن طريق ربط البقاع اللبناني والمربّعات الأمنية التابعة للحزب فيه وفي المناطق اللبنانية الأخرى بالأراضي السورية، خصوصا بالساحل السوري…وذلك بما يؤمّن حماية ظهر الدولة العلوية، في حال لم يعد من خيار آخر غيرها أمام بشّار الأسد.
بات مطلوبا بكلّ بساطة رئيس للجمهورية اللبنانية ينخرط في هذه اللعبة الخطرة التي تجري على حساب لبنان.
لم يكن ميشال سليمان الرجل الصالح لمثل هذا الدور. على العكس من ذلك، تمسّك الرئيس سليمان، الذي خرج مرفوع الرأس من القصر الجمهوري ساعة انتهاء ولايته، باعلان بعبدا. رفع اعلان بعبدا عاليا من أجل حماية لبنان في وقت يبدو مطلوبا أكثر من أي وقت أن لا يوجد مَن يحمي الوطن الصغير بحدوده المعروفة ونظامه القائم.
قبل فترة وجيزة وخلال الأزمة الطويلة التي رافقت تشكيل الحكومة اللبنانية الحالية، قال الرئيس حسين الحسيني كلاما في غاية الأهمّية. وصف ما يمرّ به لبنان بأنّه «أزمة كيانية». إنّها أزمة كيانية بالفعل وليست مجرّد أزمة مرتبطة فقط بتهميش المسيحيين اللبنانيين إلى أبعد حدود. إنّها أزمة مرتبطة بمستقبل لبنان الذي صار فيه من يصيح، من دون بعض من حياء وخجل، أنه «يحمي» كلّ شيء في البلد، أي أنّه وصي عليه. هل يمكن أن تكون هناك وصاية جديدة على لبنان؟ هل هذا مسموح…أم بات كلّ شيء ممكنا مع انهيار سوريا ككيان بعد شبه الإنهيار الذي حصل في العراق؟