وزير مالية اسرائيل يائير لبيد يستشعر الحرج.
قبيل انفجار موجة العنف الأخيرة ضد قطاع غزة بدا الوزير مرتاحاً إلى نتائج المالية العامّة المتوقعة هذا العام، وكان على وشك تقديم الخطوط العريضة لموازنة 2015. كان لبيد يشعر بالغبطة لأن الأرقام بين يديه تجسدّ تحسناً في المالية العامّة وتلحظ خفض العجز في العام المقبل إلى 2.9% من الناتج المحلي، وهو مستوى مُرضٍ ومعتدل بالمقاييس الاقتصادية.
ولحظة بدء العدوان على غزة، واحتماء بلاده بالقبّة الحديدية المتطوّرة للاتقاء من صواريخ محلية الصنع، انقلبت الصورة تماماً أمام الوزير، وبات ملزماً بتغيير أرقامه وتخفيض توقعاته المتفائلة. فحرب دولته «النووية» مع القطاع الفلسطيني الصغير، والمحاصر، ستؤدّي إلى تراجع النموّ وتقليص عائدات الضرائب وزيادة الإنفاق على الجيش، الذي يتوقع أن يطلب ما لا يقلّ عن 10 مليارات شاقل إضافية لتعويض مخزون الأسلحة ودفع رواتب الاحتياط. ولا ننسى متطلّبات دعم المناطق المتضرّرة، لاسيما تلك المحاذية لقطاع غزة، وقد بدأت تباشيرها بتخصيص الحكومة 120 مليون دولار لدعمها، فيما الحرب ما تزال، ربما، في أيامها الأولى.
الوزير سيكون، خلال الحرب وبعدها، أمام خيار بين أمرين: الأوّل هو القبول بكل المطالب المالية الإضافية التي سترتبها حرب غزة، للعسكريين والمدنيين، وهذا يعرّض مصداقيته الشخصية ومصداقية مالية الدولة للنقد والمساءلة. والثاني هو «الاسترجال» و«الاستئساد» بوجه العسكريين والسياسيين وأفواههم المفتوحة على الاعتمادات الإضافية، فيجعله هدفاً لحملاتهم الشعواء.
ليس وزير المالية وحده في هذا الموقع، بل دولته كلها تعاني من الحرج لاضطرارها إلى اتخاذ قرارات أحلاها مرّ. إذا لم تنجح المبادرة المصرية، أو سواها، في وقف إطلاق النار، فستجد حكومة نتنياهو نفسها مضطرة لدفع جيشها نحو الاجتياح البرّي، الذي أتمّت له كل العدّة. العدوان الجوّي لم يأت بالنتائج المتوخاة. حتى الاثنين الماضي كانت طائرات «جيش الدفاع» قد أمطرت غزة بحوالي 1500 طن من المتفجّرات، ومع ذلك، فقد أفادت الاستخبارات الإسرائيلية أن 20% فقط من صواريخ «حماس» و«الجهاد الإسلامي» قد دمّرت أو استعملت، وفقاً لما نشرته جريدة «هآرتس» الإسرائيلية قبل يومين.
لكن العدوان البرّي ليس نزهة. تسجّل إسرائيل لنفسها في الحرب الراهنة نقطة إيجابية وحيدة: لقد احتمى مدنيوها وعسكريوها خلف «القبّة الحديدية» فتلافت الخسائر البشرية تقريباً، مقابل خسائر جسيمة في الجانب الفلسطيني. ولكنها إذا اضطرت لاختيار الاجتياح البرّي فهي ستقدّم جنودها أهدافاً سهلة للمقاتلين في غزة، وتعرّضهم للقتل أو الأسر، كما أن الاجتياح البرّي سيزيد الضحايا بين الفلسطينيين فتبدأ الضغوط الدولية لوقفه. قدّر عسكريون إسرائيليون أن احتلال غزة يحتاج إلى ستة أشهر فيما «تنظيف» القطاع يتطلب عاماً كاملاً، ويمكن تصوّر الخسائر الفلسطينية والإسرائيلية طيلة هذه المدّة والمفاجآت أو المتغيّرات التي قد تحدث خلالها..
وقف إطلاق النار مع احتفاظ «حماس» و«الجهاد» بقدرتهما، لا سيما الصاروخية، كارثة معنوية لإسرائيل. والاجتياح الجزئي هو كارثة معنوية أكبر، لأنه يؤدّي إلى التضحية بالجنود ثم وقف النار من دون نتائج حاسمة. أما «الحلّ النهائي» للمسألة الغزاوية فهو يتطلّب ثمناً لا تستطيع إسرائيل دفعه.
غريب كيف تمكّن قطاع غزة من التحوّل إلى تحدّ بهذا الحجم لدولة مثل إسرائيل، تتمتع بحيّز هائل من القوّة العسكرية والاقتصادية والدعم الغربي. فغزة منطقة محدودة المساحة ومحاصرة من كل الجهات، وقد أدّى الحصار، معطوفاً على التخلّف الاقتصادي المزمن، إلى واقع بائس. في القطاع يعيش 38% من السكان تحت خط الفقر ويبلغ معدّل البطالة 22.5%.
هذا الكيان الفقير والصغير يقضّ مضاجع إسرائيل ويقلقها ويشعرها بالحرج. أما في المقلب الآخر من المنطقة فلا خجل ولا حرج من إهمال فلسطين وغزة وغضّ الطرف عن مأساتهما، لأن الأولوية هي للصراع المذهبي.