يستحيل تغييب فلسطين. هي أولى القضايا وأقدسها. لا يحدّها منتهى. كل الأزمان هي. تتوالد في أذهاننا حتى والعرب في غيبوبة الخذلان والمهانة. وتنعقد حتى ثمالة الحب في قلوبنا حتى والمسـلمون يطوحون بأنفسهم وأحلامهم على وجه الكراهية.
تُوسع فلسطين مساحة الشرف في هذه اللحظة من التردي الكابوسي في دنيا العرب. اسمها ليس مقطوعاً. يشّع تحت شمس الجراح والنضال. يحمل دم الشهداء ليصبغ شامة الحقيقة. الحقيقة المغيَّبة بين حفلات الدم «الداعشي» ومسارح الخداع المنصوبة في مقار السلاطين والملوك والأمراء والرؤساء العرب وبيوتات الوسط في عواصم القرار الغربية وأروقة المنظمات الدولية التي تتفصد غضباً عند مقتل مستوطن واحد، ولا يتغير لونها وهي تنظر إلى رضّع فلسطين مشروخي الرؤوس مقطّعي الأوصال مسحوقي الأعضاء على أركام التراب. لم تعد كل الجهات فيها تشير للحزن، ولا كل الأحلام شراعاً لليأس. صار فجرها يفيق على نايات البطولة ورصاص المقاومين وصواريخهم التي تحشر ملايين الصهاينة في السراديب وتدفعهم للعويل والجنون. المعركة اليوم هي لغتنا الفصحى، تكسر قانوناً متوحشاً من قوانين السرد الاستعماري البشع. النصر لم يعد مجرد رغبة لا يتحقق إلا عبر الوهم. إننا نبصره طالعاً من نبل القضية وشغف الشهادة ودعاءٍ للمقاومين لا تحيط به المدركات يفيض به شهرالله الكريم.
إلى أين تؤدي هذه النتيجة التي نلمس صورتها المدهشة على أرض غزة؟
أولاً: لم يعد يهم الغزّيين أن يتحرك الزعماء العرب المخدرون والجبناء لوقف العدوان. العدوان تصدّه سواعد وصواريخ المقاومين.
ثانياً: لم يعد الغزّيون في وارد أن يوضح لهم أحد خبث ولؤم ما يسمى بـ(المجتمع الدولي) وتلوّن أساليبه واختلاف لهجته وفقدانه تماماً لأية قدرة على الإحساس بمشاعر إنسانية عادية.
ثالثاً: لم يعد ممكناً لدى الغزّيين أن تستمر مسيرة التفاوض مع العدو المتلذذ بدماء محمد أبو خضير بهذا الانحدار والسقوط المريع.
رابعاً: إنّ سوريا هي نموذج التضامن القومي التي لا تزال محافظة على مبادئها وخياراتها في ما يتعلق بالفلسطينيين وما يلزم لدعمهم من سلاح كاسر للمعادلات القديمة، وبالتالي لا تتصرف إلا من موقع الانتماء والشراكة الكاملة رغم عصف الأزمة التي تتعرض لها.
خامساً: تمثل إيران النموذج الإسلامي النقي العابر للقوميات والمذاهب والحدود وهي تقف من القضية الفلسطينية موقف المساند الصادق المخلص الذي على مساندته يتوقف مصير القضية الفلسطينية ومستقبل الفلسطينيين، وقد باتت اليوم بلا مبالغة سر الأمل في استعادة الفلسطينيين لأرضهم بعدما انقطعت أواصر القضية مع عرب انطفأت النار والنخوة في مضاربهم.
سادساً: لقد رسم «حزب الله» خطوط المعركة من قلب غزة وفلسطين. طيف عماد مغنية حاضر بقوة. كان في عينيه من الأمل والعزم ما يكفي ليرى مشهد الصواريخ وهي تنهمر على المستوطنين في داخل الكيان. كان يتطلع لهذا اليوم الموعود الذي ينكسر فيه طغيان إسرائيل وجبروتها في عرينها.
سابعاً: لقد شكلت الأوضاع الخطيرة في العراق منذ الاحتلال الأميركي عام 2003 وما رافقها من تحريض وفوران مذهبيين، وتالياً الأزمة في سوريا وما نجم منها من انقسامات وتباينات واصطفافات في صفوف الإسلاميين والقوميين أكبر التحديات التي واجهتها المقاومة في لبنان. وظن البعض أنّ أولوية المقاومة وأهدافها باتت مذهبية طائفية، والعكس صحيح فقد صيغت الدعايات كي تنزاح المقاومة الفلسطينية من موطنها وموقعها في الصراع مع العدو. وكان المطلوب أن يحصل الاضطراب والشك في البيئتين المقاومتين اللبنانية والفلسطينية ويرتفع منسوب الكراهية لتقول كل بيئة للأخرى: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد». ما اضطر سماحة السيد حسن نصرالله لمخاطبة جمهوره والعالم مبدداً الأوهام بالقول: «نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم لن نتخلى عن فلسطين ولا عن مقدسات الأمة في فلسطين. قولوا عنا رافضة، قولوا إرهابيين، قولوا مجرمين، قولوا ما شئتم واقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة وعلى باب كل حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب لن نترك فلســطين».
اليوم يثبت «حزب الله» أنّ انغماسه في فلسطين أكبر من أن يوصف. «يكون حيث يجب أن يكون». هناك باب الجمر وبيت الخلد ومعبر الحياة إلى الكرامة. لقد اقتربت الرواية على الانتهاء. المقاوم في لبنان يرقب اللحظة التي يتوحد فيها مع المقاوم في فلسطين. يناديه بصوت عال: «أصبح عندي الآن بندقية، قولوا لمن يسأل عن قضيتي، بارودتي هي القضية»!