تمضي المواجهة القائمة في عرسال نحو نهايات غير محسوبة. الأمر، هنا، لا يتعلق بطبيعة المعركة العسكرية. كل المؤشرات تقود الى أن المسلحين سيخسرون. قد يسقط ضحايا كثر، وتأخذ المعركة وقتاً أطول، ويكون هناك دمار ودماء. لكن منطق الأمور وطبيعتها يقولان إن من يقاتل الجيش في عرسال ليسوا أصحاب قضية محقة حتى ينتصروا.
في داخل لبنان، سيشعر الناس بالضيق إزاء ما يحصل. داعمو الجيش يطلبون منه المستحيل، وخصومه لن يترحموا على شهدائه. وأهالي عرسال سيعيشون أكثر مرحلة تعب وقلق في حياتهم. لكن الجمهور، عموماً، سيواصل انقسامه حول الموقف من الأزمة السورية. وبهذا المعنى، لا تزال قضية عرسال عنصراً من توابع الأزمة السورية. ولم تصل بعد لتكون عنصراً في الأزمة اللبنانية. وبالتالي، ليس فيها عناصر شبه مع أحداث عبرا، ولا مع أحداث طرابلس، حتى ولو حاول البعض ربط الأمور بالأزمة السورية. في طرابلس وعبرا، للمشكلة جذرها اللبناني. لكن، في عرسال، المسألة برمتها عنصر سوري بامتياز. حتى أهالي عرسال أنفسهم، عندما اتخذوا موقفاً عملانياً من الأزمة السورية، تصرفوا وفق الحساب المنطقي الذي يجعلهم سوريين في الحياة اليومية، أكثر منهم لبنانيين. إذ إن لبنان، الرسمي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، لم ير في عرسال يوماً موضوعاً لبنانياً.
لم تتعاملالدولة والأحزاب مع عرسال يوماً علىأنها جزء من لبنان
ولأن الأمر كذلك، لا يمكننا توقع انهيارات سياسية لبنانية. حتى الخشية الأمنية الواقعية من تداعيات على شكل عمليات عسكرية أو احتجاجات أو محاولات تمرد عسكري في أكثر من منطقة لبنانية، لن تشكل في حد ذاتها عنصراً لبنانياً ينعكس تأزماً كبيراً أو طويل الأمد. سيظل الأمر في حدود ردود الفعل، المحصورة، أيضاً وأيضاً، بارتدادات الأزمة السورية. وبالتالي، من ينظر الى مواقف القوى السياسية عليه أن يتعامل مع الأمر على أنه جزء من المراجعة القائمة حيال الموقف من الأزمة السورية. وبالتالي من المنطقي القول:
ـــ إن قوى 14 اذار لا يمكنها إعلان موقف داعم للجيش اللبناني وكأنه يواجه عصابة مسلحة، من دون أن تعيد هذه القوى قراءة الموقف من الأزمة السورية. ومن لديه موقف رافض لسلوكيات المجموعات المسلحة السورية في عرسال، عليه التثبت من أن هذا هو سلوكها الحقيقي أينما وجدت. ومع الأسف، هو سلوك واحد يمتد على طول خريطة الربيع العربي إياه.
ـــ إن موقف تيار المستقبل يحمل في طياته خبث الأولاد الأشقياء. هو أصل الموقف الانتهازي الذي يقبل بكل شيء شرير، شرط أن يبتعد عن حديقته. ولا شيء يجبره على إعلان موقف واضح إلا متى تحسس خطر الحريق في قلب منزله. وسيكون موقف التيار شبيهاً بموقف مراقب، لأن المستقبل، شأنه شأن قوى 14 آذار، يعرف أن الموقف الحاسم يستوجب موقفاً حاسماً مماثلاً من الأزمة السورية نفسها. ومن يرد محاصرة الإرهاب في لبنان، عليه التوجه صوب منابعه.
ـــ إن موقف النائب وليد جنبلاط لا يمثل قراءة جديدة في التطورات اللبنانية الداخلية. هو موقف يتعلق بإشكالية الأقلية الدرزية التي يتحدث جنبلاط باسم الغالبية من أهلها، والتي لم تعد تشعر بأي نوع من الأمان جراء تطورات الأزمة السورية. فيه مراجعة ناجمة عن خسارة خيار الرهان على معارضة سورية تسقط الحكم في سوريا، وفيه محاولة جديدة لاحتواء ردود الفعل. هذه المرة، أدرك جنبلاط أن عناصر الحماية تأتي من سياسة واضحة، فيها الموقف الواضح، وليس من خلال سياسة بائسة عاجزة، عنوانها «النأي بالنفس».
ـــ إن موقف الغالبية الشعبية عند المسيحيين لا يمكن صرفه خارج القلق الوجودي الذي يعصف بالمشرقيين المسيحيين الذين باتوا يتلمسون حقيقة أن الوقوف على التل، والتفرج على حرب طائفية أو مذهبية أو وطنية تدور من حولهم، هو وقوف من ينتظر وصول حافلة تقلّه الى مكان بعيد. وليس موقف من يريد البقاء في هذه الأرض. وكل محاولة للتلطي خلف أوهام الأقلية المحصنة غربياً وعالمياً، أو الحاجة إليها لضمان التنوع عندنا، أو الفرادة التي تمنع الاستغناء عن خدمات هذه الأقلية، هي محاولات لا أمل منها. فإما الانخراط في المعركة أو الانتحار الصامت. وخيارات المعركة واضحة لا تحتاج الى مجهر.
لكن، ماذا عن العلاج السوري لأزمة عرسال؟
هناك حقيقة تقول بأن في عرسال، اليوم، أقل بقليل من مئة ألف شخص؛ أكثر من نصفهم من النازحين السوريين. وبالمناسبة، فإن علاقات المصاهرة والتعامل التجاري والعلاقات الاجتماعية كانت قائمة أساساً بين معظم هؤلاء النازحين وبين أهالي عرسال والقرى المجاورة لها. وهذا الحشد المدني الكبير يجب النظر إليه، اليوم، ككتلة بشرية لا ككتلة سياسية، حتى لو كان موقف غالبيتها معارضاً للنظام في سوريا وللجيش ولحزب الله في لبنان.
أما المبادرة المنتظرة من جانب الحكم في سوريا، وبدعم وضغط من جانب حزب الله، فهي القيام سريعاً، وسريعاً جداً، باتخاذ الإجراءات الكفيلة بتأمين عودة هؤلاء النازحين الى قراهم ومدنهم، من دون النظر الى الشروط الأمنية والسياسية. الخيار الإلزامي القسري الوحيد الممكن اتباعه مع هؤلاء النازحين، هو، فقط، تأمين عودتهم الى بلادهم، وعندها يمكن توجيه البندقية مباشرة الى صدور المسلحين، وتخييرهم بين إلقاء السلاح أو الموت!