IMLebanon

أغلى من أن تترك للشعب

أُطلقت على حرب 1975 تسميات كثيرة، لأنها كانت في الحقيقة حروباً كثيرة. لكن العنوان الأول كان إنهاء الدولة المارونية التي عُرفت بمصطلح “الميثاق الوطني”. والسياسيون، أو المقاتلون الأكثر صراحة، أعلنوا غير مرة أن النصر الحقيقي هو في إنهاء “خرافة الميثاق”.

لم تكن حرباً سرية ولو غير مباشرة. ياسر عرفات أعلن من بيروت عزل أضخم حزب مسيحي. وكمال جنبلاط كرّر أنه يجب الخلاص من الاحتكار. ومفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد أعلن من عرمون أنه يجب إعادة المسيحيين إلى روديسيا. ومنعَه وقارَه من استخدام عنوان أغنية one way ticket. أما “السيد النائب” كما كان ملقّباً يومها، أي الأستاذ عبد الحليم خدام، فكان يستجوب مرشحي الرئاسة حول شروط القبول. الوزير ميشال إده كان يسكن في اليرزة قبالة وزارة الدفاع. لا يجوز. سأله الوزير إده: لماذا لا يجوز؟ قال الوصيّ على العرش، لأن في إمكان الرئيس من مثل هذه المسافة القريبة أن يؤثّر في قرارات الجيش. لم يضطر ميشال إده إلى تغيير مقرّ إقامته، أما الجمهورية نفسها فتغيّرت.

أرغم الرئيس سليمان فرنجيه على ترك قصر بعبدا والاستقالة قبل نهاية العهد بسنة، مع وقف التنفيذ. وبقيت الحرب قائمة بأشكال كثيرة إلى أن خُتمت باتفاق الطائف الذي أنهى ما اعتبره المسلمون “المارونية السياسية” و”الاحتكار” والنزعة إلى الغرب، ودعوة الأسطول السادس أو حتى الذهاب إلى اسرائيل.

إلى أي مدى كانت الرئاسة (وليس الرئيس) المارونية ظالمة أو مظلومة، هناك وجهات نظر كثيرة. وإلى أي مدى كان الرئيس الماروني عربياً، هناك نِسب كثيرة: بشارة الخوري أو كميل شمعون، سليمان فرنجيه أو بشير الجميل. في كل الحالات انتهت الحرب بتغيير جوهري في النظام ولو لم يسمَّ كذلك، أما في جوهر الحكم والدستور فلقد سقطت حصة المسيحيين في الميثاق وقلِّمت في الدستور وهزِّئت في النصوص عندما تحوّل ما بقي من صلاحيات للرئيس شكليات فيها نوع من الإهانة. للرئيس حق الاعتراض فقط إلى أن يجفّ الحبر.

كل ما تبقى كان ما بقي لشخصية الرئيس، وليس لمحبرته. إما خبيراً بلبنانيات البلد وقابلاً بها وبارعاً في إدارتها مثل الياس الهراوي، وإما صبوراً على تحوّلات اللبنانيين مثل ميشال سليمان. إميل لحود كان قاطعاً، لا يُولي المواقف اهتماماً كبيراً.

أردنا القول من كل ما تقدّم، ومن تكرار ما هو معروف أو مفهوم، أنه إذا كانت الرئاسة من دون صلاحيات فلماذا العبَث بالدستور من أجلها مرة أخرى؟ لماذا تنتخب من الشعب رئيساً ليس مسموحاً له بمخاطبة الشعب أو الرجوع إليه في أي خلاف أو أزمة أو محنة أو قرار؟ لماذا ينتخب الشعب مباشرة رجل القصر الذي لا يُسمح له بالدعوة إلى أكثر من “حوار” حول قضايا البلد، وليس إلى مؤتمر؟

ألا يكفي التشريد الذي حصل للرئاسة؟ مرة في الطائف، مرة في الدوحة، مرة في شتورة، مرة في الفياضية، ومرة في القليعات. كأنما الرجل هارب أو مهرِّب!

الاستفتاء إملاء في أي حال. والناخب العادي لا يؤتَمن على الخيار الوطني في الحالات الاستثنائية. صلاحيات الرئيس وموقعه ودوره وأهميته لا شبَه تقريبياً لها سوى ألمانيا الاتحادية. وألمانيا لا تسلِّم المسألة إلى الناس لئلا لا تشقّهم، فلينشقّوا حول البرلمان، أحزاباً وكتلاً ومقايضات، أما رمز الوحدة فاعطوا اختياره لـ”الحكماء”. بعض أفضل سياسيينا، من الاستعمار إلى الانتداب، إلى الاستقلال، جاؤوا بالتعيين لا بالانتخاب. وأسقط الناخب رجالا أمثال صائب سلام وريمون إده وغسان تويني ونسيب لحود وجان عبيد. لا ضرورة للذاكرة إطلاقاً. ففي الانتخابات الأخيرة أسقطت طرابلس “قلعة العروبة” جان عبيد وانتخبت شاباً كتائبياً يظهر للمرة الأولى، هو وسام سعادة.

هل يُعقل أن يُترك الآن انتخاب رجل مثل جان عبيد للأمزجة الفوارة؟ ليس هذا وقت العبَث بالدستور ولا بما تبقّى من أشكال ومناخات الوحدة الوطنية. بلد عاجز عن انتخاب بلديته ونائبه يُدعى إلى انتخاب رئيسه بالصوت المباشر تكريساً لسلوك التحدّي والانقسام ونقل النزاع العميق من أدبيات المؤسسة السياسية والوطنية إلى شارع لم يخرج بعد من الحرب، بكل أسمائها، وخصوصاً الاسم الماروني.

دعا ديغول إلى استفتاء مباشر على دستور جديد من أجل إنقاذ فرنسا من أهواء جنرالاتها وعمى اليمين الفاشي المتمسّك بالاستعمار. واتهم محامي فيليب بيتان الرئيس ديغول “بأنه يُفرّط بأراضي فرنسا كما لو كانت حديقته في كولومبي”. ويقصد بها طبعاً أرض الجزائر. ووقف اليسار أيضاً ضد ديغول، وقال جان – بول سارتر يومها جملته الشهيرة، في مقال من حلقتين في “الاكسبرس”: “لست أؤمن بالله لكنني سأقترع إلى جانبه لأنه أكثر تواضعاً من ديغول”.

يومها أيضاً قالت “الموند”، التي كانت لا تزال تمثّل الضمير المستقل، إن الجمهورية الرابعة قد ماتت لشدة ما شلَّعها السياسيون، ولا بد من جمهورية جديدة، ليس لأن الحكومة أصبحت صعبة بل لأن الحكم صار مستحيلاً.

لطالما عقدنا المقارنات، بكل تواضع، بيننا وبين فرنسا. وإذا كان المعيار هو الشلل السياسي فإننا، على ما يقال، جمهورية رابعة: فوضى تامة وشلل عام. في 25 أيار 1958 كتبت صحيفة “باري برس”: “باختصار كلّي، المسألة واضحة الآن: البرلمان يثق بالمسيو فلملان الذي يثق بالجنرال سالان الذي يثق بالجنرال ديغول الذي لا يثق بالبرلمان، لكنه ينتظر منه أن يصوّت على الثقة به”. لشدة تفاهة السياسات، قالت “باري برس” إن التراجيديا تحوّلت إلى مسخرة، farce – مهزلة.

ثمة شبَه فاقع آخر مع “الجمهورية الرابعة” كاد يفوتنا: يومها، لم تعد باريس هي عاصمة فرنسا السياسية، بل أصبحت في الجزائر المتحاربة، وفي واشنطن وموسكو المتفرجتين على الانهيار. وهل بيروت هي عاصمة لبنان السياسية اليوم؟ أرجو أن تتقبّلوا مني هذا: عندما لا يعود هناك وطن من المستحيل أن تبقى هناك عاصمة وطنية. في الفوضى العارمة تتوزّع قرارات المصير وصورة الوطن، فيصبح القدَر فاصلاً في عرسال أو في القصير، وتنتقل الحدود الفاصلة إلى الداخل، ويحاول الفقر أن يبرّر الجريمة، وتتهالك المُثل والنُظم، ويتحوّل الشأن الوطني والانتماء القومي إلى علْك سياسي مُبالغ فيه بحيث يتجاوز حتى المقاييس المألوفة آنفاً. أو بالأحرى المقاييس المأنوفة دوماً.

لسنا وحدنا جمهورية رابعة عائمة في الفراغ. وضَع باراك أوباما الغرب برمّته في هذا الموضع. ولو لم تكن الفراو ميركل “الرجل الوحيد” لاستحال أن تلمح على الخريطة مرجعية ذات أثر أو معنى تاريخي. لقد رمى جورج بوش العالم في فوضى الاحتلال ورماه باراك أوباما في فوضى التراجع. كان منظِّر الحروب كلاوزفيتز يقول إن أول بند في خطة القتال هو رسم طريقة الانسحاب. لا يجوز أن تترك جنودك وضباطك للهلاك وتمضي مخلّفاً الخسائر والموت.

الفراغ دعوة إلى الجميع. “داعش” لم تتقدّم في غياب الجيوش العربية فحسب، بل في انهماك باراك أوباما في البحث عن منزل للتقاعد، وناشر للمذكرات. وسوف يحدثنا ربما عن نجاح أميركا في العلاقة مع كرزاي والمالكي والجلبي. أو سوف يصف ربما مشاعر أميركا وهي ترى سيّافاً واقفاً خلف مراسل أميركي. ربما لاحظتم في الصورة أن المراسل كان أكثر شجاعة من السيّاف، وأكثر كرامة بشرية. تلك صورة ليست لـ”داعش” في ذروة العروض عن فكرها، بل للغرب في قعر انسحاقه المادي. أقامت هولندا جنازة جماعية لضحايا الطائرة الماليزية في أوكرانيا، من دون مذكَّرة احتجاج. لأن البلاد الواطئة هي أكبر شركاء الاقتصاد الروسي بعد قبرص. ولأن السيد أوباما لا يفكر في أكثر من سحب دفتر العقوبات من جيبه كلما رأى أمامه شعوباً تموت ودولاً تنهار.

هذه هي حرب العراق الثالثة. الأولى خاضها جورج بوش الأب لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. والثانية خاضها بوش الابن لتدمير ما

بقي من البنية العربية، والثالثة تخوضها “داعش” لكي تدمّر آخر صورة للعرب.