IMLebanon

أمن السدود والحدود من الموصل إلى عرسال مسؤولية… إيران

التدخل الأميركي في العراق لن يكون كافياً. الغارات الجوية لن تحسم الحرب وتنهي «الدولة الإسلامية». مثل هذا التدخل اعتمدته الولايات المتحدة ولا تزال في أفغانستان واليمن وباكستان. لكنه لم يغير الكثير في موازين القوى على الأرض. تأثيراته تبقى محدودة. إضافة إلى أن واشنطن ليست مستعدة لانخراط ميداني أو توسيع لائحة أهدافها. الرئيس باراك أوباما كرر أنه لن يرسل قوات برية. كان واضحاً منذ اليوم الأول للاجتياح الذي قامت به «داعش» قبل شهرين. أكد أن قواته لن تعود للقتال في العراق. وقال صراحة إن لا قدرة على حل هذه المشكلة من خلال إرسال قوات أو صرف أموال. وأضاف شروطاً سياسية في الأيام الأخيرة، ما دام أن هذا التنظيم المتشدد قلب قواعد اللعبة السياسية رأساً على عقب. لذلك لم يتحرك من شهرين حتى عندما استنجد به رئيس الحكومة نوري المالكي. وحدد هذه الشروط بوضوح مع الاستعداد لتوسيع العمليات العسكرية: يريد شركاء على الأرض. يريد حكومة توافق وطني لا تستثني أحداً وجيشاً يمثل كل العراقيين. وعبرت إدارته منذ انتهاء الانتخابات النيابية الأخيرة عن رغبتها في رئيس جديد للحكومة بديلاً من زعيم «دولة القانون».

تقدمت الولايات المتحدة خطوة على طريق مواجهة محدودة لـ»الدولة الإسلامية»: حماية اربيل والأميركيين المقيمين فيها. وكذلك إنقاذ الأقليات المسيحية والأيزيدية من خطر الإبادة. ومساعدة «البيشمركة» على مواجهة تمدد «داعش». الكرة الآن في ملعب العراقيين. عليهم أن يتقدموا خطوة نحو استكمال بناء مؤسساتهم الدستورية ووقف تقدمهم نحو تجديد الحرب الأهلية التي اندلعت منتصف العقد الماضي. والكرة في ملعب إيران التي «فرضت» على واشنطن قبل أربع سنوات القبول بولاية ثانية للمالكي. عليها أن تتقدم خطوة إذا كانت جادة في سعيـــها إلى محاربة الإرهاب، كما تدعي وتعلن. وعليها أن تعيـــد النظر في سياستها الشاملة في العراق، كما فــي سورية ولبنان أيضاً، إذا كانت راغبة فعلاً في علاقات طبيعية مع جيرانها العرب، والخليجيين خصوصاً. وإذا كانت حريصة على وقف استنزاف قواها ومقدراتها في كل هذه الجبهات المفتوحة، وإذا كانت حريصة فعلاً على عدم دفع الإقليم كله إلى حرب مذهبية واسعة لن يخرج أحد منها منتصراً.

لم تعد لعبة عض الأصابع بين الولايات المتحدة وإيران تجدي في مواجهات التطورات في بلاد الشام كلها. كان يجب استباق المفاجأة «الداعشية». وكان يجب التحرك سريعاً لوقف تمددها في الشهرين الأخيرين. كان على القيادة الإيرانية أن تترجم رغبتها في التعاون مع إدارة أوباما لمواجهة سياسية وعسكرية لهذا التمدد. تأخرت في دفع حلفائها في بغداد إلى الإسراع في اختيار بديل من المالكي، لطمأنة المكونات العراقية الأخرى وملاقاتها في منتصف الطريق. لكن التيار المتشدد راهن على تصاعد مخاوف الأميركيين وشركائهم الخليجيين من تنامي ظاهرة الإرهاب «الداعشي» الذي رأوا فيه تهديداً لمصالحهم الحيوية في المنطقة. راهن هذا التيار على إمكان استثمار هذه المخاوف في المفاوضات الخاصة بالملف النووي وملفات أخرى. لكنه لم ينتبه إلى النتائج السلبية التي يخلفها صعود الحركات الجهادية على الدور والحضور الإيرانيين في بلاد الشام.

ما منع إيران حتى الآن من اتخاذ قرار حاسم بإخراج المالكي من موقع رئاسة الوزراء ليس الرغبة في ابتزاز الغرب والسعودية فحسب، بل الأمل بإمكان الحد من تداعيات مثل هذا القرار على صورتها. وعلى صورة أولئك الذين أوكلت إليهم في «الحرس الثوري» الإشراف على أذرعها وساحاتها الخارجية. إن التخلي عن زعيم «دولة القانون» سيعني بلا شك اعترافاً صريحاً بفشلها في إدارة اللعبة السياسية في بغداد. وإخفاقها الصارخ عسكرياً وأمنياً بعد انهيار القوات العراقية أمام حملة «داعش» والمجموعات المسلحة الأخرى. إلى ذلك هي تعي أن التخلي عن رجلها في الحكومة يعني ببساطة الرضوخ لرغبات خصومها من السنة والكرد. وهذه ستعد سابقة لا يمكن الجمهورية الإسلامية التسليم بها. ستعني ببساطة أن ثمة شركاء جدداً في إدارة اللعبة لا يمكنها بعد اليوم تجاهلهم أو تجاوزهم. وإلا ما معنى هذا التمسك بالشخص ما دام أن الجميع راضون ببديل من الكتلة نفسها، ولا يمكن هذا البديل أن يجازف بتعريض المصالح الإيرانية للخطر!

استراتيجية إيران بالإشراف المباشر على إدارة اللعبة السياسية والأمنية في العراق بدأت تتصدع. وبدأت تلقي بثقلها على استراتيجية حشد كل القوى الموالية في ساحة القتال في سورية دفاعاً عن النظام. فالوعود التي أطلقها الرئيس بشار الأسد بعد إعادة انتخابه لولاية ثالثة تبخرت ويتبخر معها الوهم بإمكان الحسم العسكري. المناطق التي بشر بتحريرها من الإرهابيين استكمل هؤلاء السيطرة عليها شرقاً وشمالاً وجنوباً. وحتى القلمون التي أعلن تحريرها قبل أشهر عادت إليها الحرب أشد مما كانت وفق تكتيك ميداني جديد تعتمده «داعش» والفصائل الأخرى المقاتلة التي قفزت إلى خلف خطوط «حزب الله» في البقاع الشمالي. وكادت أن تصب الزيت على النار المذهبية الحامية أصلاً في لبنان ولا تحتاج إلى مزيد من الوقود.

صحيح أن طهران عبرت أخيراً عن مجاراتها رغبة المرجعية في النجف ومعظم القوى السياسية في تغيير المالكي. لكن هذا الموقف ظل ضبابياً يكتنفه شيء من الغموض. القوى المنضوية في التحالف الوطني الشيعي التي رفضت وترفض علناً ولاية ثالثة لزعيم «دولة القانون» لم تتخذ موقفاً حاسماً أو تحركاً نحو المكونات الأخرى الكردية والسنية لتحقيق هذه الخطوة يترجم هذا الرفض. فهل تخشى غضب القيادة الإيرانية أم أنها حريصة على عدم التفريط بالتحالف الذي ضمن لها حتى الآن إحكام قبضتها في حكم البلاد والسيطرة على مقدراتها وقراراتها. أما إذا كانت إيران عاجزة فعلاً عن إخراج المالكي فإن ذلك يعني ببساطة أن قبضتها في بغداد بدأت تتداعى! الواقع لا يشي بمثل هذا العجز. لكن انتظارها أن يصرخ خصومها من لعبة عض الأصابع قد يطول إذا كانت التطورات تستنزفها يومياً في معظم ساحات بلاد الشام من الموصل إلى البقاع مروراً ببقاع سورية كثيرة.

أن تكون الكرة في ملعب إيران لا يعفي الولايات المتحدة من مسؤولياتها. فهي تأخرت في الرد على هجوم «داعش». وغاراتها على مواقع التنظيم اليوم لن تكون كافية لإنهاء أزمة العراق. تأخرت أكثر من سنتين في خوض معركة إخراج المالكي لتفادي الأزمة الحالية. كان يجب مواجهته يوم بدأ حملاته السياسية والعسكرية على خصومه السنة والأكراد وحتى شركائه في التحالف الوطني الشيعي. وتأخرت في التدخل الفاعل لتسوية الأزمة السورية التي لا يقل ضحاياها عن الضحايا الذين يسقطون بسيوف «الدولة الإسلامية» وسكاكينها! وتأخرت وتتأخر خصوصاً، لوقف المذبحة التي تقودها حكومة بنيامين نتانياهو في قطاع غزة. عجزت عن تحريك التسوية لكن لا شيء كان يحول دون تحركها لرفع الحصار عن مليون ونصف مليون فلسطيني يعيشون في سجن حقيقي في القطاع. لعل أفضل وصف لسياسة أوباما أنها لم تبدأ شيئاً وأنجزته كما هو دور دولة كبرى تتولى إدارة شؤون العالم. والأدلة أكثر من أن تحصى من ليبيا والصومال فالسودان إلى أفغانستان فالعراق وسورية وفلسطين… والسلسلة طويلة.

لذلك يبدو طبيعياً أن تكون الخيارات ضئيلة أمام هذه الإدارة في معالجة ظاهرة «الدولة الإسلامية». الرئيس أوباما متمسك بعدم إرسال قوات برية، إذا لم يكن تماشياً مع سياسته في الانكفاء، فأقله استناداً إلى دروس التجربة السابقة في العراق. لقد اعتمدت واشنطن نموذجاً قضى برفع عديد قواتها قبل انسحابها التام في نهاية عام 2011 لمواجهة «دولة الزرقاوي» والفصائل المسلحة التي قاومت احتلالها ووقف الحرب الأهلية منتصف العقد الماضي. ترافقت هذه الخطوة مع بناء «الصحوات» من أبناء العشائر السنية من أجل عزل المسلحين عن بيئات حاضنة، وسعياً إلى تعزيز شرعية الحكومة في بغداد. نجح هذا النموذج إلى حد ما. لكن حكومة المالكي تنصلت، بعد خروج الأميركيين، من كل الوعود التي أغدقت على القوى السنية لإشراكها في القرار السياسي وحصولها على حصتها من الثروة. وباشرت حملة إلغاء وإقصاء لكل القوى السياسية. اعتمدت نهج تفكيك جبهات خصومها. ولم يتمكن هؤلاء قبل سنتين من سحب الثقة من هذه الحكومة بسبب الموقف المتشدد لطهران التي مارست ضغوطها على قوى شيعية وكردية.

قيام «الدولة الإسلامية» على جزء من العراق وسورية وطرقها حدود لبنان لم يغيرا قواعد اللعبة فحسب بل هزّا الأرض تحت أقدام الحلفاء والخصوم في المنطقة. وفرضت وستفرض مقاربات سياسية مختلفة وتبدلاً في الاستراتيجيات. فليس قليلاً أن يعد الرئيس أوباما بمزيد من التدخل لمواجهة «دولة الخلافة». وليس قليلاً أن تقدم المملكة العربية السعودية بليون دولار إلى الجيش اللبناني ليظل ممثلاً وحيداً لجميع اللبنانيين، ودعماً لدوره في مواجهة «الداعشيين» ومنع انزلاق البلاد إلى حرب مذهبية مفتوحة. وليس قليلاً أن يعود الرئيس سعد الدين الحريري لإدارة هذه العناوين ومنع انزلاق أهل السنة إلى أحضان المتشددين بعدما بدا بعض الأصابع في مستهل أزمة عرسال يؤشر إلى المؤسسة العسكرية ودورها.

تقدمت واشنطن خطوة في مواجهة إرهاب «داعش» في العراق. ومثلها فعلت الرياض في لبنان. فماذا تنتظر طهران لتتقدم خطوة واسعة من بغداد إلى دمشق وبيروت لتلاقي استعداد الآخرين لتوسيع تدخلهم، ولتتقدم بسياسة مختلفة متوازنة ومعتدلة ومسؤولة… قبل أن يُغرِق سدُّ الموصل وبعده سد الفرات الإقليم كله بالماء والدماء.