«داعش» جيش حقيقي وليس مجرد ميليشيا لتنظيم ديني سياسي، ويتأكد ذلك في اجتياحاته المظفرة لمناطق شاسعة من سورية والعراق. ولأنه جيش فلا بد أن تكون وراءه دولة (أو أكثر) تدعمه ريثما يستطيع إقامة دولته الخاصة به.
هذه الحقيقة ظهرت مبكراً، وبالتحديد عندما رفض زعيم «داعش» تعليمات أيمن الظواهري وانصرف إلى ضرب «جبهة النصرة» (الممثلة الشرعية والوحيدة لتنظيم «القاعدة»)، بل عمد إلى جذب عناصر «النصرة» حتى استحالت هيكلاً صغيراً مثل هياكل المعارضات المسلحة في سورية والعراق.
وفيما أظهرت حقيقة «داعش» أوهام سياسيين عرب نسبوا التنظيم إلى هذه الجهة أو تلك في الصراع الإقليمي، ناشرين دخاناً من العواطف السلبية أو الإيجابية يحجب الحدث المأسوي في المشرق العربي الذي لا يضاهيه سوى انهيار السلطنة العثمانية وإنشاء إسرائيل في أوائل القرن العشرين ومنتصفه.
الآن، وبعقل بارد، لا بد للمتابعين الجديين التخلي عن عواطفهم، لكي يفككوا ظاهرة «داعش» ويحددوا منشأه ويتوقعوا مصيره ومصير مسرحه المشرقي، حيث يسدد ضربات قاسية للدول والمجتمعات.
ومع الافتقار إلى براهين مؤكدة، تبدو تركيا، وربما استلحاقاً دولة قطر، الدولة الداعمة لجيش «داعش» الحقيقي، ذلك أن دول الإقليم التي تعارض نظام بشار الأسد في سورية وسياسات نوري المالكي في العراق، أكدت بالقول والعمل عدم تورطها في دعم «داعش» الذي يحرج حماته داخل بلدانهم وفي المجتمع الدولي.
لم نسمع بتنصل تركي واضح من «داعش»، بل أن قبر أحد أجداد العثمانيين نال عفو التنظيم أثناء تحطيم القبور والتماثيل في مناطق سيطرته في سورية والعراق، بما في ذلك قبور صحابة.
وإذا كان جسم الحكومة التركية على مقاس التهمة بدعم «داعش»، فلا بد من سؤال حول علاقة الصداقة والتعاون بين أنقرة وطهران بملف «داعش» السوري والعراقي. أردوغان الذي زار طهران والتقى رئيسها والمرشد، وروحاني الذي زار أنقرة وامتدح علاقتها ببلده، لا يمكنهما تنحية ملف «داعش» الصراعي عن محادثاتهما. سؤال يبقى مطروحاً ويستحق الشك بأجندة تركية إيرانية حول مستقبل المشرق العربي (لا كلام رسمياً أو إعلامياً في طهران يوجه لوماً إلى تركيا لسياستها الداعمة للمعارضة المسلحة في العراق وسورية، لئلا نقول دعمها «داعش»).
وإذا كان تمدد «داعش» الدراماتيكي ألحق الضرر بحضور إيران في المشرق، فلماذا صُمّت آذان حكام طهران عن نداءات العراقيين، سنّة وشيعة وكرداً، منذ سنة أو أكثر، بالكف عن حماية المالكي وإدارته الخاطئة للحكم؟ بل إن شخصية عراقية زارت لبنان وحاولت توسط قيادة «حزب الله» مع إيران للتخلص من العبء الخطير الذي يمثله المالكي، ولم تنجح الوساطة بسبب تعنت طهران.
عراق ما بعد اجتياحات «داعش» يختلف بالضرورة عما قبلها، وسورية ليست بعيدة عن هذا المصير، فالمشرق العربي تجاوره دولتان يحكمهما الإسلام السياسي، إيران وتركيا، وتقود حروبه الداخلية تنظيمات إسلامية عزّزها جلوس القيادي في حزب «الدعوة» نوري المالكي على عرش العراق.
«الدعوة» تستدعي «داعش»، إنه منطق الأمور ومأساتها.