تدلّ كل المؤشرات إلى أن الخطوات العملية لإقامة تحالف دولي لمواجهة «داعش» قد انطلقت، إذ باشرت الولايات المتحدة الأميركية اتصالاتها لترجمة هذا التوجه على أرض الواقع، وقد طلبت من كل الدول الإقليمية دعماً لوجستياً ومخابراتياً وبرياً وجوياً، إلا أنّ الردود التي تلقتها واشنطن بدت متفاوتة على رغم أنها ما زالت أولوية وتتطلب مزيداً من التواصل والتشاور. فالمملكة العربية السعودية أبدت كل تعاون وتجاوب، فيما الكويت والإمارات والبحرين أظهرت استعداداً لافتاً يتطابق مع استعدادات الرياض، وذلك خلافاً لدولتي قطر وعُمان اللتين بدتا أقل حماسة من الدول الخليجية الأخرى. وفي الوقت الذي عبّر الأردن عن دعمه المخابراتي واللوجستي وفتح الأجواء، رفضت تركيا أي تعاون على أي مستوى، واشترطت موافقة حلف «الناتو» لاستخدام قواعدها، فيما من الواضح أن العراق سيضع كل قوته لأن المواجهة الأولى والأساسية ستجري على أرضه، وبالتالي الاتجاه هو إلى تأليف الحكومة سريعاً بغية تأمين الغطاء العراقي الجامع والمطلوب. وأما الدول الأوروبية وسائر الحلفاء في «الناتو» فأبدوا استعدادهم للمساهمة في القصف الجوي والعمليات الخاصة المحدودة.
وسط التصميم الدولي على مكافحة «داعش»، وفي انتظار أن يشرح الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد غد الأربعاء، خطة تحرّكه في هذا الاتجاه، مؤكداً أن المرحلة المقبلة تتطلب اتخاذ موقف هجومي للتصدي لهذا التنظيم، لفّ التوتر لبنان من أقصاه إلى أقصاه إثر إعلان «داعش» ذبح الجندي اللبناني الثاني المخطوف الشهيد عباس مدلج، وعاش اللبنانيون ساعات عصيبة، إذ قوبلت هذه الجريمة البربرية بغضب عارم تُرجم قطعاً للطرق وإحراق دواليب في معظم المناطق، ما استدعى استنفاراً سياسياً وأمنياً شاملاً، فيما تلاحقت الدعوات إلى التهدئة وعدم الانجرار إلى منزلق خطير.
أما عائلة الشهيد فتعالت على جروحها، وأعلن والده استعداده للعودة إلى صفوف الجيش لقتال الإرهابيين على جبهة جرود عرسال، في وقت استأنف أهالي العسكريين المخطوفين تحركهم الاحتجاجي على الأرض، وسط حديث عن نصب خيمة أمام السراي الحكومي الكبير.
وليلاً، أعلنت قيادة الجيش أنّ «بعض الأشخاص تداول رسائل نصية عبر أجهزة الخلوي، تتضمَّن بياناً ملفقاً منسوباً إلى قيادة الجيش – مديرية التوجيه عن أوضاع النازحين السوريين»، نافية «جملة وتفصيلاً إصدارها أيّ بيان يتعلق بهذا الشأن، وتحيط المواطنين علماً بأن كلّ البيانات الصادرة عنها تُعمّم على موقع الجيش عبر الإنترنت».
سلام يصارح
وفي انتظار تبلور نتائج الوساطة القطرية لإطلاق العسكريين المخطوفين، وعلى وقع أجواء الغليان في الشارع، توجه رئيس الحكومة تمام سلام مساء أمس إلى اللبنانيين بكلمة أكد فيها أن ما جرى أمس الأول «ليسَ حادثة يتيمة، إنها فصل من نزاعٍ طويلٍ مع الإرهاب».
وقال: «نعرفُ أنّ النفوسَ مشحونة والغضبَ كبير، لكن يجب أن نعرفَ أنّ الفتنة التي يسعى إليها الإرهابيون هي المدخل إلى خراب السّلم الوطنيّ». وإذ أبدى تفهمه لمشاعر الحزن والأسى لدى أهالي العسكريين المخطوفين وجميع اللبنانيين، اعتبر «أن ما جرى في الشارع في الأيام الماضية أساء إلى الشهداء، وأساء إلى قضية أبنائنا الأسرى، وكاد يودي بالبلاد إلى منزلقات خطيرة».
وأكد سلام «أن اللجوءَ الى إقفالِ الطرق وتعطيلِ الحركةِ في البلاد لن يعيدَ إلينا عسكريينا. فالمواجهةُ في مكانٍ آخر… هي مع العدوِّ الإرهابي، وليسَ في الداخل بعضنا مع بعض. هي في رصِّ الصفوف، وليس في بعثرتِها وتشتيتِها». وقال: «الدمُ غالٍ، لكنّنا لن نَجْزَعَ» مؤكداً «الإصرار على استعادة أبنائنا بكلّ السبل».
وأضاف: «لسنا في موقف ضَعْف.. خياراتنا عدة وهناك عناصرُ قوّة متعددة بين أيدينا. إننا ننظُرُ في كل السبل الكفيلة بتحرير أسرانا». وقال: «المعركة طويلة، ويجب ألا تكونَ لدينا أي أوهام في أنها ستنتهي سريعاً…العدوّ ليس تقليدياً… لقد تسبّب لنا بألمٍ كثير، وقد يتسبَّبُ بألم أكثر.
لذلك، فإن المطلوب هو الثقةُ بالحكومة وبإدارتها لهذا الملف، بعيداً من المزايدات». وطمأن أهالي المخطوفين أن الجيش لن يتخلّى عن جنوده، ولن يدّخر أي جهد لإعادتهم، لبنان لن ينكسر وهؤلاء الإرهابيون سيُهزمون بالتأكيد».
خلية الأزمة
وكانت «خلية الأزمة» الوزارية المكلفة متابعة ملف العسكريين المخطوفين اجتمعت بعد ظهر أمس في منزل سلام في المصيطبة، في حضور نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع سمير مقبل، ووزيري الداخلية نهاد المشنوق والعدل أشرف ريفي والأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع اللواء محمد خير. وغاب عن الاجتماع وزيرا المال علي حسن خليل والخارجية جبران باسيل بداعي السفر. وقرّرت متابعة التواصل مع القيادات السياسية والأمنية لمعالجة ملف العسكريين المخطوفين، معلنة اجتماعاتها مفتوحة.
وقالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» إن المجتمعين قوموا نتائج الجولة الأولى من الوساطة القطرية، وحصيلة اتصالات يجريها سلام سراً، ونتائج لقاءات عقدها قبل أيام مع السفيرين التركي والقطري.
وبعد تقويمهم حجم المخاطر المترتبة على تهديدات المجموعات المسلّحة مقارنة بما سمّته اللجنة في اجتماعها الماضي «أوراق القوة» التي يمتلكها الجانب اللبناني، بحث المجتمعون في الظروف التي رافقت النكث بالوعد بعدما تبلّغ الجانب اللبناني تجميد قرارات الإعدام والذبح في خلال أول اجتماع للموفد القطري إلى عرسال.
ولم تتأكد اللجنة من كثير من المعطيات المتداولة في الإعلام، في ظل ندرة المعطيات الموجودة في حوزة أعضائها لفقدان الثقة بصدقية المسلحين القادرين على ترتيب أي حجة تؤدي إلى ذبح أي عسكري مخطوف، كأن يقال مثلاً «حاول الهرب» أو «حاول الاعتداء» على أحد المسلحين… إلى آخره من الروايات التي يمكن الحديث عنها بلا رقيب أو حسيب.
وناقشت اللجنة حصيلة الاتصالات التي أجراها وزيرا الداخلية والعدل مع عدد من أهالي المخطوفين ونتائج مساعيهما لوقف التوتر ومنع أي اعتداء يجرّ البلاد إلى فتنة سنية ـ شيعية بدأت تذرّ بقرنها من مداخل بلدة عرسال، أو لجهة التهديدات التي أطلقت ضد مجموعات سورية لاجئة أو نازحة بوجوب مغادرة أماكنها.
وقررت اللجنة تكثيف الاتصالات عبر المراجع الأمنية المحلية مع أهالي المخطوفين ودعوة لجنة منهم إلى لقاء حدد مبدئياً غداً الثلثاء، للبحث في حصيلة المشاورات الجارية وما يمكن أن يستجد في الساعات الأربع والعشرين المقبلة، والتحضير لعقد اجتماع أمني ـ عسكري واسع
يليه، ويضم إلى اعضاء اللجنة وفدين من قيادتي الجيش والأمن الداخلي، على حد تأكيد أحد أعضاء اللجنة.
وحول حجم مطالب الخاطفين بالإفراج عن سجناء إسلاميين وأسمائهم الذي تداولته بعض وسائل الإعلام، قال أحد أعضاء اللجنة لـ»الجمهورية»: «من الأفضل الاحتفاظ بمضمون المفاوضات الجارية بسرية».
ورفض التعليق على ما يجري تبادله من معلومات، لافتاً إلى «أن ما تبلغه لبنان سابقاً ما زال هو هو ولم يطرأ أي جديد»، ومشيراً إلى أن بعض ما ينشر لم يتبلغه لبنان الرسمي بعد. كذلك لم يشأ الحديث عن شروط مختلفة أو متناقضة للأطراف الخاطفة، وتحديداً ما بين مطالب جبهة «النصرة» و«داعش»، ولم يستبعد وجود تبادل أدوار.
ريفي
وعلى المستوى القضائي، أكد ريفي لـ«الجمهورية» أن المجلس العدلي كثف من جلسات المحاكمة للإسلاميين الموقوفين في رومية، وهو ما تمنّاه فور تسلّمه مهامّه الوزارية، وقال: «إن الحديث اليوم عن تسريعها في ظل الضغوط التي أنتجتها عملية الخطف ليس دقيقاً وليس صحيحاً. فتسريع المحاكمات أمر طبيعي ووطني وإنساني ليس إلا». وكشف «أن الأحكام صدرت بمضمون 22 ملفاً من أصل 37 بعدما أنجز المجلس العدلي تصنيفاً لملفات الموقوفين بالعشرات ودمج قضاياهم في 37 ملفاً».
«حزب الله»
ونبّه «حزب الله» من أي تصرّف انفعالي قد يخدم أهداف الخصم والعدو. واعتبر رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد «أن الجيش قادر على إجراء اللازم مع التكفيريين حتى بالعتاد الذي يملكه، وهو قادر على تحرير المخطوفين لكنه يحتاج إلى تغطية سياسية من صاحب القرار السياسي في البلد».
ورأى «أن غياب الإجماع الوطني الحقيقي على وجوب التصدّي لهؤلاء هو الذي يمنع الجيش من القيام بدوره، وممنوع على الجيش أن يطلق قذيفة ضد هؤلاء بحجة عدم توريط البلد في شأن أكبر من حجمه». وأكّد «أن الحزب اتخذ من جهته قراره في إلا يترك لهؤلاء فرصة من أجل التحكّم في مصير البلد».
من جهته، اعتبر نائب رئيس المجلس التنفيذي في الحزب الشيخ نبيل قاووق أن «كلما تردد اللبنانيون في المواجهة اقترب التكفيريون من إشعال لبنان أكثر فأكثر، فالتردد الرسمي اللبناني يقرّب الذبح إلى العسكريين، وكلما حسموا أمرهم بقرار شجاع وجريء وسريع، ابتعد الخطر التكفيري عن لبنان، فالموقف الشجاع والجريء واستخدام كل أوراق القوة في لبنان يبعِد السكّين عن رقاب العسكريين». وأكد أنه يحق للجيش استخدام كل أنواع السلاح واللجوء إلى كل عمل للدفاع عن لبنان ولإطلاق العسكريين»
وقال قاووق: «لطالما طالب فريق 14 آذار بأن يكون شريكاً في قرار الحرب، فأين هم اليوم من الواجب الوطني في حماية لبنان أمام الهجمة والغزو التكفيري؟ وما هو موقفهم تجاه ما يحصل؟
أهو التردد أم الاستمرار في الكيديات السياسية، أم الاستمرار في التحريض المذهبي وإثارة التوتر والانقسام السياسي؟» وأكد «أن «تدخل حزب الله وراء الحدود قبل سنة أو سنتين كان واجباً وطنياً لحماية أهلنا والمقاومة، وسنستمر في القيام بكل ما يلزم لحماية أهلنا والوطن، ولن نعطي الفرصة للتكفيريين لالتقاط الأنفاس ولمزيد من السيارات المفخخة أو الغزوات».
الراعي إلى واشنطن
وفي هذه الأجواء، يتوجه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي والبطاركة الشرقيون إلى واشنطن للمشاركة في مؤتمر «الدفاع عن مسيحيي الشرق الأوسط»، قبل أن يقوم بزيارة راعوية لبعضٍ الرعايا التابعة للأبرشية المارونية، ومنها أبرشية سيدة لبنان في لوس أنجليس وسانت لويس. وقد سبقه إلى واشنطن بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحّام منذ الجمعة الماضي.
كذلك سيشارك في المؤتمر ممثلون عن الأحزاب المسيحية، ومنهم وزير الاقتصاد والتجارة آلان حكيم ممثلاً حزب الكتائب، والنائبان عاطف مجدلاني وجان أوغاسبيان ومستشار الرئيس سعد الحريري غطاس خوري عن تيار «المستقبل»، والنائب جوزف المعلوف ممثلاً حزب «القوات اللبنانية».
ووسط هذه التحضيرات، لم تحسم الاتصالات الجارية بين بيروت وواشنطن بعد موعداً أكيداً للقاء بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والراعي، وسط معلومات تتحدث عن لقاء شامل وموسع بين أوباما وبطاركة الشرق قد تتخلله خلوة بينه وبين البطريرك الماروني. إلا أن مراجع مشاركة في الاتصالات لم تؤكد هذه المواعيد بعد، لأن هذه الاتصالات لم تنته بعد.
وقالت مصادر بكركي لـ«الجمهورية» إن الراعي سيلقي خلال لقاء البيت الأبيض كلمة باسم البطاركة يضيء فيها على أوضاع المنطقة، وخصوصاً لجهة ما يتعلّق منها بوضع المسيحيين في الشرق.
وكان الراعي قال أمس: «إنّنا ننتظرُ من السياسيّين المسيحيّين صوتاً نبويّاً يُخرج بلادَنا من أزمة الفراغ في سدّة رئاسة الجمهوريّة، ومن شلل المؤسّسات، ويدفع أصحاب الإرادات الوطنيّة الطيّبة إلى مواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة، وننتظرُ منهم التحلّيَ بالتجرّد من مصالحهم الخاصّة، والتحرّرَ من أسْرِ مواقفهم، والشجاعةَ في تخطّي الذات واتّخاذِ مبادراتٍ جديدة تقودهم إلى انتخاب رئيسٍ جمهوريّة جديد في أسرع ما يمكن».