طرأت مستجدّات غير محسوبة على «قنبلة» داعش العراقية. فالولايات المتحدة الأميركية التي راقبَت بدقّة التطوّر السريع لهذا التنظيم في كلّ من سوريا والعراق، والتي بايعَت عن كثب ومن خلال المخابرات التركية الأهدافَ «التوسّعية» لـ»داعش» في العراق، لم تفعل شيئاً لإجهاض الانفلاش الداعشي في العراق، لرهانها على أنّ تغلغل هذا التنظيم المتشدّد في المناطق السنّية العراقية سيدفع إيران إلى خفض سقفِ تفاوضها السياسي ويُجبرها على القبول بصيغة جديدة في العراق يكون للسعودية حصّة فيها.
لكنّ انفلاش تنظيم «داعش» تخطّى التوقّعات وأطاحَ بالأقليّتين المسيحية والإيزيدية، وهدّد أربيل العاصمة الاقتصادية للأكراد.
في هذا الوقت، حاولت إيران التفلت من الشرَك الاميركي من خلال فتحِ قنوات التفاهم مع تركيا أمَلاً في إنجاز حلّ مستقلّ معها لمشكلة «داعش» انطلاقاً من تقاطع المصالح الذي يجمعهما في رفض مقوّمات القوّة لدى الأكراد.
وفي نهاية المطاف عادت الأمور لتتَّجه وفق التخطيط المسبق، فرُفع الغطاء عن نوري المالكي وتمّ القبول بمبدأ تأليف حكومة وحدة وطنية جامعة تضمّ المكوّن السنّي، وهما مطلبان سعوديان، في مقابل المباشرة في تشكيل ائتلاف قوى عراقية وإقليمية لضرب «الدولة الإسلامية» (داعش).
قبلها تحرّكت واشنطن ومعها أوروبا لنجدة أربيل، فقصَفَت الطائرات الاميركية وفتحت العواصم الغربية أبواب مخازن السلاح والذخائر لقوات البشمركة.
لا شكّ في أنّ تفاهما أميركياً – إيرانياً حصل وتُرجم على الساحة العراقية. فقد شهدت جنيف خطوة تقدّم كبيرة على مستوى المفاوضات النووية، وفي العراق لمسَت إيران أنّ التنازلات التي ستقدّمها تبقى شكلية وأنّها ستحتفظ بالنفوذ الفعلي.
والأهمّ ما يهمس به البعض بأنّ «الدولة» الكردية لن تبلغ أبداً حدّها الأقصى من القوّة، أي لن يجتمع أكراد العراق وسوريا وتركيا في دولة واحدة يُناهز سكّانها الأربعين مليون كردي، بل سيبقون وفق منسوب قوّتهم الحالي وربّما مع بعض التأرجح صعوداً أو نزولاً وفق متطلبات المرحلة.
قد يكون مسعود البرزاني أخطأ حين قدّم ورقة مجانية لواشنطن للمساومة عليها مع إيران حين طالبَ بالاستقلال عن العراق خلال زيارة وزير الخارجية الاميركي جون كيري إلى كردستان أخيراً، ورقة ثمينة باعتها واشنطن لطهران وجنَت منها أرباحاً في العراق.
هذا الانفراج على المستوى العراقي لا يزال يحتاج الى نحو الأسابيع الثلاثة ليُصبح كاملاً مع ولادة حكومة الوحدة الوطنية في العراق. وعلى هذا الأساس انتعشَت الآمال في لبنان بقرب الوصول إلى تسوية إيرانية – سعودية على الملف الرئاسي، ذلك أنّ الأوساط الاوروبية المتابعة عن كثب المفاوضات الاميركية – الايرانية مقتنعة بأنّ التسوية الاميركية – الايرانية آتية لا محال، وأنّ ما يحصل هو تفاوت في مستوى السرعة بين مرحلة وأخرى.
ويلفت هؤلاء إلى أنّهم لمسوا من الإيرانيين أنّ التواصل الإيراني – السعودي سيأتي نتيجة للتفاهم الاميركي – الايراني وليس قبله أو في موازاته، وربّما لهذا السبب استَبعد «حزب الله» أيّ انعكاسات مباشرة للحَلحلة الحاصلة في العراق على الملف اللبناني، إذ بدّد أمينُه العام السيّد حسن نصرالله في خطابه الأخير منسوبَ التفاؤل الذي ساد الأوساط السياسية اللبنانية إثر التطوّرات العراقية الاخيرة.
لا بل إنّ المراقبين استنتجوا أنّ الأزمة الرئاسية في لبنان مفتوحة لأمدٍ غير محدود، خصوصاً أنّ نصرالله أسهَب في شرح المخاطر «الوجودية» التي تجتاح المنطقة، ما يُعطي الأولوية لملف التعاون الامني على حساب ملف الأزمة الرئاسية.
وكان قد سبق خطاب نصرالله كلام أكثر وضوحاً لنائبه الشيخ نعيم قاسم الذي قال مباشرةً أن لا حلول قريبة للأزمة الرئاسية في لبنان.
وعلى رغم هذا الموقف لطرفٍ لبناني أساسي، إلّا أنّ الأوساط الدولية لا تزال على رهانها التفاؤلي بحلّ الأزمة الرئاسية في وقت ليس ببعيد.
وقد لفتَ في هذا الإطار إرجاء مغادرة السفير السعودي علي عواض عسيري بيروتَ للانتقال الى مقرّ عملِه الجديد في إسلام اباد على رغم الملفّات الكبرى التي تنتظره هناك، ولم تُقنِع التبريراتُ التي سبقت أيّاً من المتابعين. فعسيري كان قد شارفَ على إنهاء زياراته الوداعية حين طلبَت منه بلاده البقاءَ وقتاً إضافياً يبدو ضرورياً ومُلحّاً على المستوى اللبناني.
وتردَّد أنّ كلّاً من واشنطن وباريس نصحتا الرياض بتأجيل رحيل عسيري، وهو الذي يُدرك جيّداً تفاصيل الملفّ اللبناني، والمعروف عنه احتفاظه بخيوط تواصل مع «حزب الله». ذلك أنّ واشنطن وباريس اللتين تنتظران ختمَ ملف تأليف الحكومة العراقية في النصف الأوّل من أيلول المقبل، تراهنان على وضع الملف اللبناني على الطاولة وإحداث خَرقٍ يؤدّي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ولا تستبعد هذه الأوساط أن تتحرّك الأحداث الأمنية لتكون مدخلاً ملزماً للجميع للولوج إلى حلٍّ رئاسي. ففي العام 2008 تمّ دفع الأمور لتصل الى 7 أيار ومن ثمّ الى تسوية رئاسية.
وفي العراق استُخدمت «داعش» للوصول الى الاهداف المطلوبة، ما يَعني أنّ النار قد تكون مطلوبة في لبنان أيضاً لإنجاز التسوية الرئاسية، خصوصاً أنّ أكثر من طرف قادر على هزّ الاستقرار الأمني لإنضاج الطبخة الرئاسية. والمقصود هنا تسوية تشمل التركيبة الحكومية وقانون جديد للانتخابات يشرف على تنفيذها رئيسٌ آتٍ من اللائحة التوافقية التي أصبح عدد أسمائها محدوداً جداً.
وفي لقاء الوداع بين السفير السعودي ورئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، شدّد عسيري على تمسّك بلاده بعلاقات قوية مع عون وعلى تواصل دائم… لكنّ العلاقات شيء ورئاسة الجمهورية شيء آخر، والمصالح الدولية تبقى أقوى من الجميع.