6 آب 2014
وقع المحذور، وحصل ما كان واردا في حسابات العديد من القوى السياسية. فقد ادخلت عرسال في أتون معركة الحدود المشرعة في زمن السعي الى الغاء حدود ومحو كيانات. وصارت البلدة الحدودية القصية ميدان مواجهة مباشرة بين الجيش وجبهة النصرة واخواتها ونسختها الكاربونية المتناسلة. ولهذا الامر الواقع حسابات وتداعيات مفتوحة على اسوأ الاحتمالات.
دوائر القرار في قوى 8 آذار كانت تحسب حساب هذه الساعة المقيتة حيث يصير الجيش وجها لوجه مع قوة منظمة محترفة خارجية بسطت سيطرتها بسرعة قياسية على بلدة لبنانية طرفية وجعلت منها جزءا من مواجهة كبرى ممتدة على مساحات دول اقليمية متجاورة ومأزومة منذ اعوام. كل المعطيات والوقائع المتوافرة حول طبيعة نشوب مواجهات عرسال المستمرة منذ خمسة ايام توحي بأن الساحة اللبنانية اضحت في عرف هذه الدوائر جزءا من المعركة الاقليمية الكبرى. وهذا يعني سقوطا نهائيا ومدويا لكل مقولة النأي بالنفس ولإطارها النظري “اعلان بعبدا” الذي اعتبره البعض فتحا مبينا في عالم السياسة اللبنانية وحاول ان يبني عليه امجادا سياسية واستطرادا زعامة سياسية اصيلة.
امام جسامة ما يحدث في عرسال وحيال ما يقدّمه الجيش من تضحيات سيطول ولا ريب الجدال الداخلي حول من يتحمل مسؤولية انزلاق الاوضاع الى هذا المستوى. هل هو الذي تعاطى بازدراء مع تحذير اطلقه وزير الدفاع السابق فايز غصن من تسلل تنظيم القاعدة الى الداخل اللبناني ثم سارع في اطار رفضه ذلك الى تنظيم رحلات حج الى داخل عرسال ليثبت لمن يعنيهم الامر ان البلدة المكلومة اليوم تخلو من اي وباء قاعدي فاستغل البعض من الداخل والخارج هذا الوضع ليأخذ حريته في خطف البلدة وتحويلها تدريجا الى جزء من المواجهة الشرسة الدائرة في سوريا؟
ام هل هو الطرف الذي اختار ان يذهب طواعية الى الميدان السوري ليساعد في تغيير المعادلات الميدانية وفي تكسير اجنحة احلام ورهانات كثيرين تصرفوا على اساس ان النظام في دمشق آيل الى السقوط بين عشية وضحاها؟ ام ان المسؤول هو القيادة السياسية في بيروت ولا سيما السلطة التنفيذية برأسيها ايام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي لم تبد حزماً وصرامة في تحصين الحدود اللبنانية مع سوريا للحيلولة دون التفاعل العضوي بين ساحة مشتعلة وأخرى متحسمة ومستعدة للانخراط في المعركة كل وفق حساباته وتطلعاته؟ أم أن المسؤول الأكبر هو سياسات الدول التي تولت الاشراف على المعركة في الداخل السوري أو أصرت على دور وظيفي للساحة اللبنانية عنوانه استقبال النازحين السوريين بدون أية قيود أو حدود وأيضاً جعل أجزاء من الأراضية اللبنانية قاعدة خلفية للمعارضات السورية دون مراعاة للخصوصية اللبنانية ولهشاشة الوضع الداخلي اللبناني فكان ما كان؟ بالطبع ثمة من يرى أن هذه المحاكمة صارت متأخرة الآن ولم تعد ذات قيمة بعدما وقع المحظور وحصل ما كان يخشى منه الكثيرون وصارت البلاد برمتها أمام مأزق سياسي – عسكري يمتلك قابلية الامتداد زمنياً ومكانياً ويطاول لهيب ناره الجميع من دون استثناء. ومع ذلك فان الثابت في قراءة الدوائر عينها ان المواجهات الدائرة رحاها الآن داخل عرسال وعلى تخومها وفي الجرود المحيطة تختلف بدرجة كبيرة عن مواجهات عبرا في شرق صيدا. فثمة قوة غريبة وافدة مشهود لها بالتنظيم وبشراسة القتال وهي سيطرت عملياً على بقعة من الجغرافيا اللبنانية لها خصوصيتها الاستراتيجية إذ تتعدى مساحتها الـ 45 كيلومتراً ذات طبيعة بالغة الوعورة وهي بالنسبة اليها متنفس وموئل من الناحية اللوجستية وهي تعرف تفاصيلها معرفة تامة. وقبل ذلك هي امتداد لمنطقة القلمون السورية حيث تدور معركة شرسة صارت فيها الطرف الأضعف بعد تراجعها أمام الجيش السوري وقوات “حزب الله”. وفوق ذلك كله فان هذه البقعة الجغرافية هي صلة وصل بين لبنان وسوريا من شأنها أن تؤمن لهذه القوة فرصة إلحاق الساحة اللبنانية بساحات مواجهاتها الممتدة اقليمياً. ومن خلال ذلك الواقع ستحاول القوة عينها أن تفرض شروطها على لبنان وعلى النظام في سوريا إذ ستطرح عاجلاً أم آجلاً فكرة المقايضة بين انسحابها من عرسال وانسحاب “حزب الله” من الميدان السوري وبالتحديد من منطقة جرود القلمون مما يعني المزيد من الارباك للداخل اللبناني أمام المزيد من السجالات والمناكفات.
وبناء على هذه المعطيات والوقائع فان أمر انكفاء عاجل لهذه القوة عن البقعة الجغرافية التي بسطت هيمنتها عليها مباشرة لا يبدو أمراً وارداً خصوصاً أن المؤشرات وموازين القوى لا تشي بأن الجيش قادر على تحقيق حسم ميداني سريع على الأقل وفق حسابات هذه القوة وتوقعاتها. لذا فمن غير الممكن أن تخرج هذه القوة سلماً أو طوعاً من دون أثمان كبرى لا يبدو أن السلطة في لبنان قادرة على تحقيقها. وعليه فان القوة التي أسرت عرسال وجعلتها رهينة لا يبدو أنها دخلتها لتخرج منها بسهولة بل هي دخلتها عنوة لتفرض أمراً واقعاً جديداً ولتفرض معادلة جديدة تحقق عبرها عملياً ما كانت أعلنته وهو أنها الآن في وارد ادخال لبنان تحت عباءة الخلافة التي أشهرتها. وهذا يعني أن لبنان أمام جرح راعف وطويل في خاصرته الرخوة شبيه الى حد بعيد بجرح مخيم نهر البارد. وعليه فان السؤال المطروح ما هي السبل التي تحول دون نقل المواجهات من عرسال الحدودية الى الساحة الداخلية أو بمعنى آخر ما هي السبل الكفيلة بحصر النار وعزلها عن الامتداد الى الجسم اللبناني؟
الدوائر عينها تبدو متشائمة حيال مسألة القدرة على منع التداعيات الأمنية من الانتقال الى الداخل والأمر عائد الى طموحات القوة التي سيطرت على عرسال.
وعلى المستوى السياسي ثمة تحد كبير يتجسد في حصر السجالات السياسية والحؤول دون اغراق الساحة الداخلية في المزيد من الصراعات الحادة التي تمنع التوحد وراء المؤسسة العسكرية لكي تستكمل ما بدأت بالتصدي له.
والثابت أيضاً أن ثمة قوى أساسية ستكون أمام تحد آخر ولا سيما تيار المستقبل الذي عليه أن يعرف كيف يعيد تخليص قاعدته من حال الارباك والفوضى التي اعترتها في الآونة الأخيرة ولا سيما ان قواعد محسوبة عليه بشكل أو بآخر تعيش مشاعر جديدة بعدما تحولت الأوضاع في العراق ثم بعد اندلاع الأحداث في عرسال. والأكيد أن المطلوب مقاربات مختلفة لاحداث عرسال وما سينتج عنها. وليس خافياً أن الدوائر عينها ترى أن ما من شأنه تحقيق انقاذ سريع وعاجل للوضع والحد من تداعيات الحدث الذي بدأ مساء السبت الماضي وهو الحيلول دون اطالة أمد الجرح النازف في عرسال من خلال حسم عسكري سريع يحرر البلدة المكلومة من قبضة المعتدين وهذا الأمر يحتاج الى مرتكزات يأتي في مقدمها تأمين الحضانة السياسية والرسمية والشعبية للجيش ولاندفاعته البطولية في مواجهة قوة يدرك الجميع انها سبق ان أنهكت الجيش العراقي المبني على اسس حديثة وألحقت به ضربة معنوية. والمطلوب أيضاً عدم ترك الجيش دون دعم ورفد متماكلين وإلا فلا مغالاة في القول أن الأوضاع آيلة إلى مزيد من التعقيد والانهيارات للساحة الداخلية التي توشك ان تنكسر تحت وطأة ما تحمله أصلاً من أثقال وأزمات. وأولاً وأخيراً المطلوب عدم النظر الى معركة الجيش على انها معركة ذات ابعاد سياسية تخص هذا الشخص أو ذاك. لم يكن النائب وليد جنبلاط مخطئاً عندما سمى داعش بأنها وباء معد وشر مستطير فلبنان أمام أمرين لا ثالث لهما فاما أن تصير عرسال نافذة لهذا الهواء الأصفر المتعطش للامتداد واما أن يعيد لململة ذاته المتناثرة ويحصن نفسه وتأخذ كل قواه بلا استثناء قرار المواجهة الجدية ولا يعتبر أحد أو جهة أن أحداث عرسال فرصة لتصفية الحساب مع الآخر.