لم يتورط أي فريق لبناني “بعد” في الحرب العراقية على غرار شقيقتها السورية لحسن الحظ. ومع ذلك ترتسم مع تزاوج محنتَي الموصل وغزة معالم مثيرة للسخرية في المشهد اللبناني الداخلي المشلّع، على رغم ان الفظائع الجارية على الضفتين الداميتين لا تفسح المجال لأي تهكّم من أي نوع في هذا المناخ الخانق.
ما كنا لنثير هذا الجانب من الواقع الداخلي لولا واقع عافية صحية لا يزال لبنان يثبته تكراراً وهو انه لا يزال البلد العربي الوحيد الذي يستشعر في نفسه مسؤولية الانتصار للقضايا المحقة والانتفاض على الإجرام والفظائع ولو باستنساب. في الفظائع المرتكبة طوال سنيّ الحرب السورية مثلا كان التعبير اللبناني عن الإدانات والرفض صورة طبق الأصل عن الانشطار الداخلي بين فريقي ٨ آذار و١٤ آذار. تمادى ذلك الانشطار ولا يزال وتسلّلت من خلفه وتحت وطأته أكبر كارثة لجوء عرفها بلد في العالم. وإذا كان المجتمع الدولي المتخاذل يتحمّل حيزاً واسعاً من تبعة هذه الكارثة فإن ذلك لا يعفي الطبقة السياسية ولا سيما منها التي تولّت الحكم في تلك الحقبة من المسؤولية التاريخية عن هذه الكارثة.
يختلف المشهد الطالع الآن مع الانفعالات اللبنانية حيال نكبة المسيحيين في الموصل ومحنة غزة. ثمة عنوان عريض إيجابي تُبرزه وحدة توصيف للإجرام التكفيري الداعشي والإجرام الإسرائيلي سواء بسواء. ولعل الأفضل من ذلك هو أن لبنان تحوّل المنبر الإعلامي والسياسي والشارعي العربي الوحيد للتعبير عن الغضب المُعتمل من التخاذل الدولي في مواجهة إجرامين يرتكبان أشد الفظائع وحشية ضد الإنسانية. مع ذلك ترانا أمام تصاعُد وتائر لا تبعث على كثير من التفاؤل إذا ما تمادت لتلتحق مجدداً بالانشطار الداخلي في شأن الحرب السورية. فثمة نغمة شماتة تتصاعد لدى جماعة “الممانعة” من خصومهم على خلفية توظيف تهجير مسيحيي الموصل لتعزيز حججهم في الارتباط بالنظام السوري بذريعة المفاضلة بينه وبين الداعشية التكفيرية. وهي نغمة تقابلها أخرى مضادة لدى بعض الخصوم تسأل أين هو “حزب الله” من الدعم العملاني المباشر لـ”حماس” في مقاومتها للعدوان الاسرائيلي؟
ينطلق مهرجان المزايدات هذا فيما يتوجّس اللبنانيون من أي سقطة جديدة من هنا أو هناك من شأنها أن تفتح ما تبقّى من مساحات آمنة لديهم لمزيد من تورّطات في ساحات الحروب الأهلية والمذهبية العربية أو استدراج إسرائيل إلى اعتداءات جديدة على لبنان. ولا بأس من الإشارة هنا، ولو خُدش شعور البعض، أن لبنان لم يعد يمكنه أن يكون بلد لجوء ولا بلد مواجهة بعدما تجرّع الكأسين حتى الثمالة القاتلة بما يهدّد بانقراض اللبنانيين على أرض لبنان. فاكفونا مزايداتكم.