IMLebanon

إستذكار الشهداء… يُحيي الحرب أم يطوي صفحتها؟

 

الدعوات إلى التسلّح التي صدرت عن أصوات مسيحية جاءت في معظمها من أشخاص وجهات لم تعرف معنى الشهادة في الحرب، فيما الأحزاب المسيحية التي سقط لها آلاف الشهداء تحذّر من التسلّح وتدعو المسيحيين إلى التمسك بخيار الدولة والوقوف صفاً واحداً خلف الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية.

تحيي «القوات اللبنانية» جرياً على عادتها القداس السنوي لشهداء المقاومة اللبنانية، شأنها في هذا المجال شأن قوى مسيحية أخرى، كما إسلامية وعلمانية خاضت الحرب اللبنانية وتتمسك بإحياء ذكرى شهدائها في خطوة تعبّر عن مدى وفائها للشهادات التي سقطت في صفوفها دفاعاً عن القضية التي قاتلت من أجلها.

وهذا الوفاء بالذات استدعى باستمرار طرح الأسئلة الآتية: ألا تشكل مناسبات إحياء الشهداء إحياءً للحرب اللبنانية؟ وألا يُعتبر استذكار الشهداء تحدّياً للفريق السياسي الذي سقط هؤلاء الشهداء في مواجهته؟

وفي المقابل، هل تجاهُل هذه المناسبات يمكن أن يُفسر تخلّياً عن مرحلة وحقبة وجماعة قدّمت أغلى ما عندها، أيْ حياتها؟ وهل هذا التخلي، غير المقصود، يمكن أن ينعكس على الأجيال الصاعدة بفقدانها الثقة بكلّ الأحزاب والقيادات على طريقة «يلي بيموت بتروح عليه»؟ وهل يمكن تحويل الشهادة الفئوية إلى شهادة وطنية؟

وإذا كانت هذه الأسئلة وتلك مشروعة، إلّا أنّ المسألة الأساس تكمن في مكان آخر، وتحديداً في النفوس، لأنّ ترسيمات الحرب الفعلية هي في النفوس لا على أرض الواقع، ولا بل المتاريس على الأرض تأتي ترجمة للنفوس المشحونة، وبالتالي النظرة إلى مناسبات إحياء ذكرى الشهداء تختلف بين الفئات التي تصالحت مع نفسها ومع الآخرين وفتحت صفحة وطنية جديدة، وبين الفئات التي ما زالت تعيش في الماضي أو تقوم بالمستحيل لإعادة إحياء هذا الماضي.

فالقوى التي تقاتلت وتصالحت على أسس وطنية لا تميّز بين شهيد وشهيد، واستطراداً لا ترى في هذه المناسبات تحدياً واستفزازاً، إنما فصلاً تاماً بين مرحلتين وحقبتين يتحوّل فيها الشهداء إلى عامل وحدة لا تقسيم، وكأنّ استشهادهم، وهو كذلك، كان الجسر والمعبر إلى وحدة البلاد والصفوف والاتعاظ من الماضي والتأسيس للمستقبل على قواعد راسخة وثابتة.

ومن هذا المنطلق يتحوّل إحياء مناسبات الشهداء إقفالاً للحرب وصفحاتها السود، وتأكيداً على خيار السلام وترسيخ الاستقرار، وتصميماً على بناء مشروع الدولة ورفض الدويلات، ورسالةً إلى الأجيال الطالعة والجديدة بعدم الاستخفاف بكلفة الحروب التي لا يجب أن تكون خياراً، إنما قدراً لا بدّ، في نهاية المطاف فقط، من مواجهته.

فالشهادة بالشهادة لا يمكن أن يعطيها إلّا مَن خاض الحروب دفاعاً عن قضية ومشروع وعنوان ودولة ووطن، ومن تخلّى عن كلّ شيء في سبيل شعبه وحريته وكرامته، ومَن وقف يوماً على قبر شهيد، ومَن ذاق مرارة الموت والقتل والتفجير، ومَن شعر بالخوف والحزن والأسى لفقدان رفاق استشهدوا إلى جانبه في معارك ومواجهات وملاحم وبطولات، ومَن ذرف الدموع على معاناة شعب وصرخة أم وفجعة أب ولوعة طفل، ومَن كان على استعداد للتضحية بكلّ شيء من أجل إنهاء هذا الكابوس وإعادة الحياة إلى طبيعتها.

ولا بدّ في الحياة أيضاً من لحظة وفاء وعرفان جميل وتقدير وصلاة وتأمل، ولا بدّ أيضاً من إعادة استذكار وجوه وأسماء رحلت وغابت ولديها أهل ورفاق وأصدقاء وأحبّة وذكريات لا يمحوها إلّا الموت، ولا بدّ أيضاً من تذكير الأقربين والأبعدين بأنّ لهذه الجماعة تاريخاً وإرثاً وتجربة وشهداء ومناضلين ومعوقين ومعتقلين ومحرّرين ومضطّهدين ومعذبين، ولا بدّ أيضاً من تذكير هولاء وأولائك بأنّ هذه الجماعة ليست لقمة سائغة ولا «Foufou w Nounou» ولا طارئة على النضال أو الحياة السياسية، إنما تشكل استمراريةً لأجيال وأجيال من المناضلين الذين دفعوا حياتهم ثمناً لحريّتهم، ولا بدّ أيضاً من التأكيد على مسألتين محوريّتين:

المسألة الأولى، أنّ صور آلاف الشهداء أكبر إثبات ودليل أنّ أحداً لا يستطيع أن يلغي أحداً، وأنه حان الوقت للإقلاع عن سياسات الهيمنة والتسلّط ومحاولات خطف البلد والإمساك بقراره وتغيير وجهه ورسالته وطبيعته ودوره.

والمسألة الثانية، أنّ لبنان لا طعم له إذا كان وطناً للمسيحيين أم وطناً للمسلمين، وأنّ أهميته تكمن فقط في هذه الخلطة والتجربة والشراكة، وللشراكة أصول وقواعد، ومن أبسط هذه القواعد المشاركة في إدارة السياسة الخارجية والداخلية للبلد، فيما هي اليوم ممسوكة من قبل «حزب الله».

فالتجربة اللبنانية التي يبحث المجتمعان الدولي والعربي جدّياً في تعميمها لا يمكن أن تستقيم إلّا عندما يدرك اللبنانيون كلّ اللبنانيين بضرورة العودة إلى ميثاق العام 1943 واتفاق الطائف ووصايا الشيخ محمد مهدي شمس الدين وثوابت الكنيسة المارونية ونهج تيار «المستقبل».

ومَن تحتفل «القوات اللبنانية» بذكراهم غداً استشهدوا من أجل لبنان السيادة والحرية والاستقلال والعيش المشترك، ولم يكن هدفهم يوماً حمل السلاح للسلاح، ولا خوض الحرب للحرب، إنما حمل السلاح وخوض الحرب من أجل الوصول إلى سلام لبنان.

وغير صحيح وليس مقبولاً القول «ضيعان يلي ماتوا»، لأنّ استشهادهم أثمر اتفاق الطائف وانتفاضة الاستقلال، وسيثمر غداً أو بعده بالتأكيد عودة لبنان المعافى والجمهورية القوية.