في غزة اليوم عدوان اسرائيلي متكرّر، الثالث منذ 2008، يبدو وكأنه خارج السياق التاريخي للنزاع العربي – الاسرائيلي. انه نزاع على ارض فلسطين بين أصحاب الارض والحق والمحتل الذي انسحب من غزة ويعاود حملاته العقابية عليها.
ما من نزاع اقليمي شغل العالم قي القرن الاخير كما النزاع العربي- الاسرائيلي- الفلسطيني. وهو بلا شك النزاع الأطول والأكثر تعقيدا بين النزاعات المعاصرة. وعلى رغم المحاولات المتكررة لوضع حدّ للنزاع، إلا أنه ظل عاصيا على الحلول. المحاولة الأكثر جدية كانت مفاوضات السلام التي انطلقت في مدريد في اوآخر العام 1991 برعاية دولية، لاسيما أميركية، بعد انتهاء الحرب الباردة وحرب تحرير الكويت، وانتجت اتفاق أوسلو في 1993 الذي فتح الطريق لإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، تبعه معاهدة السلام بين الأردن واسرائيل في 1994. ولقد اخذت المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية أقصى مداها في مسائل تفصيلية في اجتماعات طابا عشية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000.
عقاب غزة بات امتدادا للسياسة الاسرائيلية الداخلية والتنافس بين القوى السياسية، بهدف القضاء على عصب المقاومة. يأتي العدوان في زمن بلغت فيه أوضاع الفلسطينيين درجة عالية من الانهاك والانكشاف، داخليا وخارجيا، في ظل حصارمن كل الجهات، بمواجهة اسرائيل في أقصى قوتها وغطرستها، حكومة وشعبا. حاكم اسرائيل اليوم يتفوق على نظرائه – عنفا وتعنّتا – الذين سبقوه داخل اليمين المتطرف وفي مقدمهم بيغن وشارون. وكما هي العادة، تراهن إسرائيل على قدراتها العسكرية المتقدمة وعلى الدعم الأميركي غير المحدود، ويراهن الفلسطينييون في غزة على إرادتهم الصلبة بمقاومة الاحتلال بما تيسّر من سلاح ولحم حيّ.
تتواصل الإبادة في غزة والعالم العربي منشغل بفتوحات “داعش” والخليفة منشغل بالقضاء على معاقل رفاق الدرب في “جبهة النصرة” وختان النساء، وانظمة عربية تخوض معارك تحرير داخلية بلا هوادة، وقادة الامة يؤكدون ان الاسلام براء من خاطفيه الجدد، والكفّار في الوطن والمهجر يلعنون الساعة التي وضعتهم في مواجهة حالات الانتحار والجنون باسم الدين.
في حرب غزه الثالثة يعود النزاع الى جذوره على ارض فلسطين، بعد ان انتقل قسرا الى بلدان الجوار، من الاردن الى لبنان ومن ثم خارج المشرق العربي، الى تونس، ليعود ويحطّ رحاله في فلسطين في منتصف التسعينات. فمن الكفاح المسلح بعد هزيمة 1967 الى الكفاح المقاوم، مسار شاق وطويل اتى على حساب تحرير فلسطين من الاحتلال، الى ان جاءت الانتفاضة الاولى بحجارة كانت كافية لإعادة الاعتبار الى قضية شعب ينتفض بوجه الاحتلال لاستعادة حقه بدولة قابلة للحياة اسوة بشعوب العالم كلها. هكذا استعاد المطلب الفلسطيني شرعيته ومشروعيته، سياسيا واخلاقيا، لاسيما على المستوى الدولي، بعد غياب طويل.
لسنوات خلت كان أمن اسرائيل فوق كل اعتبار، لاسيما حتى هزيمة 1967. ومنذ ذلك التاريخ ومع اتفاقية كمب ديفيد بعد خمس سنوات على حرب 1973، بات فائض الامن الاسرائيلي يُصرف في جنوب لبنان ليصل الى العاصمة بيروت في 1982. ومن مطلب أمن اسرائيل و”حقها في الوجود” (المقولة المتداولة في مراحل سابقة) الى مطلب الاعتراف بهوية الدولة اليهودية اليوم، تطلب اسرائيل المستحيل، اي ان يعترف الفلسطينييون-وهم شعب غير معترف بحقه بدولة تجسّد هويته الوطنية- بهوية الدولة المحتلة وحق شعبها بالاحتلال الدائم لفلسطين. فمن أمن الدولة الى أمن الهوية، لا حدود لاختلاق الذرائع الاسرائيلية “وخلق الوقائع” لشرعنة الاحتلال، وهو احتلال مدعوم بطاقات امنية مبتكرة لحماية المستوطنين الوافدين من مدن العالم، لا لأن العيش بأمان غير متاح لهم في اسرائيل نفسها أو في اي بلد آخر، بل ليعيشوا مع عائلاتهم في مستوطنات عنصرية داخل فلسطين. انه المشروع الصهيوني المتواصل والمتجدد من جيل الى جيل لاحتلال كل الارض وصولا الى طرد كل الشعب في لحظة تاريخية مؤاتية. الا ان التصدي للاحتلال من شعب يقاوم لن يوقفه جدار عازل ولا انظمة صاروخية متطورة،ولا طبعا هدم الانفاق او النفاق، بل تسوية سياسية عادلة وشاملة.
النزاع العربي- الاسرائيلي، منذ بداياته الى اليوم،هو واقعيا نزاعات متداخلة بين اسرائيل والفلسطينيين من جهة “ودول المواجهة” (سابقا) من جهة اخرى. ولم يبق منه اليوم سوى واقع الاحتلال، مثلما كانت عليه الحال قبل 1948. فلا ساحات بديلة للنزاع، ولا طموحات لتحرير العالم العربي من انظمته الرجعية، التي سقطت اخيرا باسم قضايا وطنية ملحّة وليس بسبب حروب العرب مع اسرائيل. اما المنطقة، ومنها اسرائيل، فهي اسيرة صراع أصولي باسم الدين: سلفية يهودية تبرر القتل والاحتلال، واخرى “داعشية” اسلامية تكفيرية تستقوي على الضعيف. وقد يكون المدّ “الداعشي” في بلاد ما بين النهرين والشام النموذج الافضل لسلفييّ اسرائيل لتهجير الناس وقتلهم باسم دولة اسرائيل الكبرى، اي “خلافة يهودية” بوحي الهي من صنع بشر يتساوون في خطاب تكفيري جهادي قاتل.
لن يُعيد اسرائيل الى صوابها سوى الولايات المتحدة وداعميها، صهاينة ومتصهينين. بين حرب تموز 2006 وحرب تموز 2014، اختبرت اسرائيل التكنولوجيا العسكرية الأكثر تطورا والنفوذ السياسي الكبير، وفشلت. “حزب الله” قضى على أسطورة المركافا، وهدم أنفاق حماس لن يخرج إسرائيل من نفق الاحتلال المظلم. والخروج لا يتم ببدل عن ضائع، اي بصفقة ظرفية حول تبادل الأراضي بين دولة قائمة واخرى وهمية، مثلما كانت محاولة وزير الخارجية كيري اخيرا، ولا بمؤتمرات الدول المانحة لدعم الاقتصاد الفلسطيني، أو محاولة ربع الساعة الاخيرة في عهد جورج بوش في انديانابوليس في 2007، بعد حرب مدمرة، لا افق سياسيا لها، في العراق. وعندما قال اوباما كلمته في بداية ولايته الرئاسية الاولى حول الاستيطان غير الشرعي، عاد وتراجع، فعادت الحرارة الى العلاقة الاخوية مع نتنياهو، فتبنى، كما أسلافه، الموقف الاسرائيلي حول اختزال القضية الفلسطينية بمقولة التصدي للارهاب.
ياسر عرفات أمضى معظم حياته إرهابيا، بنظر واشنطن واسرائيل، ولم يعش “مسالما” الا في سنواته الاخيرة. وعلى رغم ذلك لم تر اسرائيل ومعها اميركا ان الظرف متاح لغصن الزيتون. وسلك محمود عباس الدرب نفسها، ولم ينل سوى الوعود، لا بل اللوم لانه لم يضع حدا “لإرهاب” حماس. فاذا كان حل الدولتين على اقل من ربع مساحة فلسطين التاريخية، لا يفي بغرض انهاء النزاع، فأي معادلة يمكن ان يقبلها الجيل الثالث من اللاجئين في وطنهم، والجيل الثاني من “الارهابيين” للدفاع عن مدارس الاونروا حيث يقتل اطفالهم ونساءهم ولا يحميهم سوى القدر.