مع تعدد القراءات للتطورات الإقليمية، لا سيما في العراق بعد صعود «داعش» وسيطرته على أجزاء منه وعبثه بتركيبته الاجتماعية والديموغرافية التاريخية، فإن مفاعيل مواجهة كل ذلك تستدعي المراقبة الدقيقة للتغييرات الحاصلة في المنطقة إزاء الخطر الداعشي.
الحاجة الملحة لمحاربة هذه الظاهرة فرضت على القيادة الإيرانية التراجع عن تشبثها بالمعادلة الحاكمة التي أرستها لسنوات بحكم نفوذها في بغداد، فوحش التطرف والإرهاب الذي كان برز في سورية قبل العراق، والذي كان النظام في دمشق سهّل بروزه بهدف شيطنة المعارضة المعتدلة ووصمها بالإرهاب، بتأييد من إيران نفسها، أفلت من عقاله الى درجة بات يهدد بالتوسع إلى الحدود الإيرانية نفسها، فضلاً عن أنه أخذ يتسبب بتداعيات تمس المصالح الاستراتيجية لطهران طالما أنه أنشأ أمراً واقعاً من مخاطره احتمال استقلال إقليم كردستان وضمه أراضي عراقية، الأمر الذي يشكل خطراً مباشراً على مستقبل وحدة الأراضي الإيرانية لاحقاً بوجود ملايين الأكراد فيها.
اضطرت طهران للتضحية بنوري المالكي بعدما أبلغها من استنجدت بهم من دول الغرب والإقليم، أن المساعدة في محاربة «داعش» مشروطة بقيام حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها المكونات السياسية والطائفية العراقية كلها، بدلاً من معادلة التفرد التي رعتها القيادة الإيرانية لمصلحة مقياس وحيد هو الولاء لها ولسياساتها، الى درجة أن «الحرس الثوري» الإيراني بات يعتمد بغداد متنفساً للاقتصاد الإيراني، يقاسمها ثروتها النفطية في موازنات الدفاع عن نظام بشار الأسد، فضلاً عن استخدام العراقيين للقتال إلى جانبه.
وإذا كان كثر يتريثون في اعتبار تراجع القيادة الإيرانية في بغداد تمهيداً لسياسة جديدة لها في المنطقة تسهل انفتاحها على الخصوم وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية، نتيجة لقائهما على الترحيب بتكليف رئيس الحكومة الجديد في العراق، فإن الذي يحتاج الى مراقبة أكثر، هو مدى استعادة محور الاعتدال العربي شيئاً من الحيوية تحت عنوان مواجهة التطرف والإرهاب. والواضح أن القمة السعودية – المصرية جاءت مطلع الأسبوع في صلب هذه التطورات وفي سياق عمل بدأ يتبلور لإعادة تكوين نظام الاعتدال (السنّي) عربياً، خصوصاً أن التطرف ينمو على حدود الدولتين: في العراق واليمن بالنسبة الى السعودية، وفي ليبيا بالنسبة الى مصر، فضلاً عما تشهده الأراضي المصرية من أعمال إرهابية، فإعلان «دولة الخلافة الإسلامية» من قبل «داعش» هو بمثابة إعلان حرب على نظام الاعتدال هذا الذي تشكل تاريخياً مصر والسعودية قاعدته الأساسية. وليست صدفة أن تكون سبقت القمة مواقف غير مسبوقة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في 4 رسائل صدرت منذ خطوة «داعش» في العراق، الأولى حين أمر بحماية المملكة من الإرهاب، والثانية في عيد الفطر حين خاطب المسلمين معتبراً «الطغيان والإرهاب أشد خطراً من أعداء الأمة المعلنين»، ملتزماً مواجهة «الفئة الباغية»، ثم في 2 آب (أغسطس) حين طالب علماء الأمة الإسلامية بأن يقفوا في وجه من يحاولون اختطاف الإسلام وتقديمه على أنه دين التطرف والإرهاب، ثم إعلانه تقديمه بليون دولار لدحر الإرهاب في لبنان إثر هجوم «النصرة» و «داعش» على بلدة عرسال اللبنانية، وأخيراً في تبرعه بمئة مليون دولار الى الأمم المتحدة من أجل محاربة الإرهاب. ولعلّ عودة زعيم تيار «المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الى بيروت في 8 آب (أغسطس) هي التقاط للحظة التي يسعى فيها «محور الاعتدال» لاستعادة المبادرة في وجه تنامي مظاهر التطرف، لكن كل هذه الأحداث، من العراق الى لبنان، تمت بمعزل من سياسة إيران في المنطقة، وهي ليست بالاتفاق معها ولم تكن في سياق المواجهة الدائرة بينها وبين عدد من الدول العربية، بل لإحداث توازن سياسي يضع حداً للتطرف، وهو أمر قد يقود الى شيء من الانفراج لا التصعيد.
لكن طهران بدلت موقفها في بغداد، ليس استناداً الى خيارات استراتيجية تعيد النظر بسياسات تسببت بما شهدته المنطقة، بل لاضطرارها الى اللحاق بالمرجعية الدينية العراقية التي أصرّت على تغيير نوري المالكي وعلى التفاهم مع المكون السنّي الشريك…