كانت الحامية الانكليزية، بقيادة الجنرال تشارلز غوردن، تقف خارج حدود مدينة الخرطوم لمنع محمد المهدي وأنصاره من اقتحامها. وقد حرصت لندن سنة 1880 على إرسال أكفأ قادتها العسكريين الى السودان، بعدما بلغها أن ثورة محمد أحمد بن عبدالله بن فحل، الملقب بـ”المهدي” تهدد بدخول الخرطوم.
كان السودان في حينه يعاني من الفقر وظلم المحتل وإنتشار الأمراض، يوم فوجىء سكانه بظهور حركة دينية أطلقها “المهدي” عقب عودته من الحج الى مكة المكرمة، وإعلان نفسه المهدي المنتظر. وطلب في دعوته المبايعة من قبائل كردفان ودارفور وبحر الغزال والسودان الشرقي. ولما حصل على التأييد والمساندة، إدعى بأن رسالته جاءت بتكليف إلهي لنشر العدل ورفع الظلم ومحاربة المستعمِر.
وبعد إنقضاء ثلاث سنوات تقريباً على التبشير وإصدار الفتاوى، قرر المهدي إقتحام الخرطوم وتحدي الجنرال غوردن. ولم تكن تلك المهمة سهلة، بدليل أن الحصار إستمر مدة طويلة كان “الأنصار” خلالها يرفعون الرايات السود التي تحمل شعار: “لا إله إلا الله… ومحمد رسول الله”، ويرددون صيحات الحرب.
ولما دنت حشود المقاتلين من أبواب المدينة، عزفت موسيقى الجيش الانكليزي نشيد الحرب، فاذا بالأنصار يصابون بالذعر والهلع، ويتسمرون في مواقعهم.
ويقول المؤرخون إن محمد المهدي إستغل لحظات التردد لينفخ في أنصاره روح التحدي، ويهاجم الجنرال غوردن والحامية التي تحرسه. ولما أدركه، إستلّ سيفه وقطع رأسه، ثم رمى به الى أنصاره الذين رفعوه على رأس حربة وراحوا يرقصون به فرحاً. واعتُبِرَت تلك الحادثة أول عملية قطع رأس ينفذها زعيم حركة دينية عربية… بخصمه.
وظهرت في الصومال، خلال تلك الفترة، حركة دينية تحمل المعتقدات ذاتها تقريباً، أطلقها محمد بن عبدالله حسّان الملقب بـ “مهدي الصومال” (1860-1920).
وكان قد حج الى مكة المكرمة قبل أن يعلن نفسه سنة 1899 المهدي المنتظر، ويستقطب الى دعوته مئات المتطرفين الذين باشروا حربهم ضد الانكليز والطليان. ومن حضن تلك الحركة، تجددت في الصومال حركة “الشباب” التي دعمتها ايران بالسلاح على أمل خلق نظام تابع لمحورها السياسي.
وفي ضوء المقارنة بين إرهاب “داعش” وإرهاب الحركات الأخرى، يمكن تفسير عمليات قطع الرؤوس بالتحليل الذي قدمه كارل ماركس لصديقه انجلز: “يتمثل الارهاب في الغالب بأعمال وحشية يرتكبها أناس مذعورون بقصد تطمين أنفسهم.”
وربما يكون هذا التحليل النفسي صحيحاً بالنسبة لحادث قطع رأس الجنرال غوردن، ولكنه غير صحيح بالنسبة لموقف “داعش” من الدول التي يخاصمها مثل الولايات المتحدة.
يقول المعلق ديفيد بروكس إن الهدف الأساسي من ذبح صحافيين اميركيين هو إذلال كبرياء الدولة العظمى، وإشعار الحليفات المعتمدة على دعمها العسكري بأنها ليس أكثر من نمر من ورق!
ويرى المحللون أن تنظيم “داعش” حرص على تنفيذ عمليات القتل بصورة علنية كي يحرج الادارة الاميركية المترددة في الغرق مرة أخرى في منطقة الرمال المتحركة.
ويبدو أن “الخليفة” أبو بكر البغدادي قرأ في إستطلاعات الرأي ما يؤكد اقتناعه بأن اوباما لا يتعجل إصدار قرار الحرب، خصوصاً بعدما تحولت الولايات المتحدة الى دولة منقذة بسبب الخوف الجماعي من تمدد نفوذ “داعش.”
وفي حين تحفظ ضباط صدام حسين، اولئك الذين يخدمون في صفوف “الدولة الاسلامية” السنية، عن الموقف المريب الذي أعلنه اوباما عقب قتل الصحافيين الاميركيين.
وبحسب تقديراتهم، فان تأخر عملية تنفيذ فكرة إقامة تحالف عسكري عربي ودولي، تنتظر المشاورات الأخيرة التي يجريها اوباما مع شيوخ الكونغرس. علماً أن سلطته، كقائد للقوات المسلحة، تعفيه من هذه القيود القانونية. ولكنه في النهاية، إتخذ قرار المشاركة في خطة قتال واضحة المعالم، حدد عناصرها يوم الأربعاء الماضي المصادف عشية الذكرى 13 لاعتداءات 11 ايلول.
يرى المراقبون أن مظاهر الاستفزاز التي أبرزتها “داعش” أثناء إعدام الصحافيين الاميركيين، كانت السبب المشجع لاتخاذ قرار الحرب ضد “الدولة الاسلامية.”
إضافة الى تزايد العمليات الارهابية الأخرى، فإن التقرير الذي قدمه رئيس الاستخبارات الاميركية كان له أكبر الأثر على القرار الذي إتخذه الرئيس اوباما.
والتقرير يحذر من إستهداف مصالح حيوية في الولايات المتحدة من قبل الدولة الاسلامية خلال سنة 2015. كما يحذر أيضاً من تنامي خطر “داعش” على الدول الاوروبية التي تمنع رعاياها من السفر الى سوريا مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا وبلجيكا.
وكانت وزيرة داخلية بريطانيا تيريزا ماي قد أعلنت أن هناك ما لا يقل عن خمسمئة مواطن توجهوا للقتال في سوريا والعراق. بينما إنضم عدد آخر الى منظمات إرهابية تنشط في دول المنطقة.
وفي المانيا تنافست “القاعدة” مع “داعش” على تعميم التوصيات المتزمتة كالامتناع عن تناول الكحول، والتقيّد بارتداء فساتين محتشمة. والثابت أنهما نشرا “شرطة الشريعة” في بعض البلدان لمراقبة المخالفين والمخالفات. لهذا إضطر وزير داخلية المانيا توماس دي ميزير للتصدي لهذه الشرطة، مؤكداً أن الدولة وحدها مسؤولة عن تطبيق القوانين.
ويُستَدَل من المخالفات التي يرتكبها “داعش” في المدن الاوروبية أنه عازم على نقل جزء من نشاطاته الى لندن وباريس وفرنكفورت وبرلين ومدريد. وقد نقلت هذه البلدان مخاوفها الى الادارة الاميركية التي إتخذتها سبباً إضافياً لاقناع الكونغرس بضرورة إعتماد سياسة الحرب قبل فوات الأوان.
ويتردد في واشنطن أن الرئيس باراك اوباما أخذ في الاعتبار كل هذه الشوائب والمخالفات لكي يعيد صوغ سياسته الخارجية على نحو يمنع تكرار إعتداءات 11 ايلول 2001. وهذا معناه إستئصال شأفة الارهاب في الخارج، بحيث لا تصل ذراعه الطويلة الى داخل حدود الولايات المتحدة. وقد ركز في خطابه الى الأمة يوم الأربعاء الماضي على هذه النقطة المركزية بقصد تطمين الشعب الاميركي قبل تطمين الشعوب العربية القلقة.
إضافة الى هذه المعطيات، فان إستعجال “داعش” لتأسيس بنية تحتية في العراق وسوريا، كان سبباً وجيهاً في إتخاذ قرار الحرب.
ذلك أن المحافظات الست، التي يسيطر عليها، تفرض تأمين الخدمات الاجتماعية والصحية لخمسة ملايين عراقي وثلاثة ملايين سوري. وبما أن عائدات النفط من البلدين لا تكفي لمواجهة ضغوط الخدمات وتأسيس بنية تحتية مريحة، فقد إضطرت إدارة التنظيم الى زيادة حجم الضرائب على المواطنين. كما إضطرت الادارة العسكرية الى زيادة عمليات خطف الأجانب بهدف جني مكاسب تصل الى مئة ألف دولار لاطلاق سراح شخص واحد.
وكان من الطبيعي أن تبعث الايرادات الجديدة على الشكوى والتململ، الأمر الذي يحرض البيئة الحاضنة على القيام بانتفاضة تحرر قد تسعف الداعين الى إزالة التنظيم.
الخبراء العسكريون يقدرون فترة إزالة حكم “داعش” بثلاث سنوات. هذا في حال حافظ الرئيس بشار الأسد على تعاونه المطلوب، ولم يدعم “جبهة النصرة” في مواجهة المعارضة السورية المعتدلة التي تتهيأ للحلول مكانه. مثل هذا الخلاف المحتمل قد ينعكس بشكل سلبي على الوضع الداخلي في لبنان، خصوصاً إذا إختار “حزب الله” الانحياز الى الأسد من دون موافقة ايران.
مصادر ايرانية مطلعة تستبعد حدوث هذا المأزق لأن سياسة ايران الجديدة ستكون أكثر “روحانية” وأقل “خامنئية.”
وتؤكد صحف طهران أن المرشد الأعلى علي خامنئي قد يرشح خليفته قريباً، الأمر الذي يسمح لروحاني بمحو سياسة التشدد التي طبقها قاسم سليماني في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
ومعنى هذا أن تفكيك “داعش” وإلغاء مخاطره، قد يساعد على تقوية الجيش اللبناني… مثلما يساعد “حزب الله” على إعادة سيادة لبنان الى شرعية الدولة…
كاتب وصحافي لبناني