IMLebanon

إلى البغدادي: لديك نوابٌ في البرلمان

يُسَجّل لنواب شمال لبنان الثلاثة، محمد كبارة وخالد الضاهر ومعين المرعبي، الذين أصدروا بياناً محرضاً على الجيش ودماءُ عناصره لم تجف بعد، أنهم أكثر اتساقاً مع أنفسهم ممن يصفقون لـ«داعش» (أو «النصرة») حين تقاتل في جبال القلمون، ويَسِمونها بالإرهاب متى دخلت البلاد.

يُسجّل لهم ثباتهم على الموقف وعدم تعديله حيال «ثوارٍ» (والكلمة ابتذلت أيما ابتذال)، صدف أن اختطفوا مدينة لبنانية وذبحوا جند دولتها في الشوارع، كرد فعلٍ على اعتقال عقلٍ مدبرٍ لعمليات انتحارية.

يُسجّل لهؤلاء دعمهم الإرهاب على الملأ، واستنفارهم العصبيات الطائفية بلا خجل، ولا خوفٍ من لومة لائم.

هؤلاء صادقون مع أنفسهم. يقولون ما يضمرون بالفم الملآن، وعلى «رأس السطح» يوضحون: حذار العبث مع المسلحين فهم ذخيرتنا. أما سلاح الفتنة، ففي جيبنا دائماً محفوظ.

لخليفتنا الموقر أبي بكر البغدادي ممثلون في البرلمان، أو هذا هو الدور الذي يريد أن يلعبه هؤلاء، «نكاية في الطهارة»، ونصرةً لـ«النصرة» أو «داعش» في مواجهة نظام مستبد.

يتنطح السادة النواب الذين شاءت الوصاية السورية في السابق أن تفتح لهم أبواب البرلمان، للدفاع عن مسلحي المعارضة في عرسال تحت لافتة طائفية فجة، بدعوى أن المستهدف، فضلاً عن «أهل السنة»، هو التيار السياسي الذي ينتمي إلى كتلته البرلمانية هؤلاء، فيما التيار إياه يعلن معركته من على الضفة الأخرى.

يتبرع النائب خالد الضاهر بتحليل عجيب، مفاده أن «حزب الله» يريد أن يعاقب عرسال بواسطة المؤسسة العسكرية لاحتضانها مئة وخمسين ألف لاجئ سوري، ولتأييدها «تيار المستقبل»، فيما وسائل إعلام «المستقبل» ذاتها تحتفي بتشديد رئيس الحكومة تمام سلام على «الوقوف صفاً واحداً خلف الجيش»، في مواجهة من يصفهم بـ«الإرهابيين» و«التكفيريين».

ليست العبارات المذكورة أوصافاً اخترعها «حزب الله»، كما جرت عادة الاتهام. يدرك الضاهر وزملاؤه ذلك، فيتابعون اللعب بشكل مختلف. يخرجون عن شبه الإجماع ومن عباءة «تيار المستقبل» بما يشبه الانشقاق عنه، ويثبّتون لأنفسهم هامشاً سبق أن اشتقوه منذ وصل انحدار الخطاب السياسي في البلاد إلى أقصاه قبل سنوات.

ثمة أدوار تعطي النواب وزناً في حسابات الخارج، وتجعل منهم ورقة «جوكر» لا تشبه سائر الأوراق المتساوية (شكلاً) في إجماعها على دعم المؤسسة العسكرية وإجراءاتها، وهم يدركون ذلك جيداً.

وثمة أوراق على الطاولة اللبنانية يفيد استثمارها، بعرف السادة النواب، ولو خرج الأمر قليلاً عن نطاق المعقول. فالسير على حافة الهاوية قد يأتي بأرباح تفوق ما تم استثماره بأضعاف. هذا ما تقوله قوانين القمار. والنواب المتعاطفون مع «الحالة الإسلامية الجهادية»، ضالعون بأساليب القمار السياسي.

لكن المقامرة قد تأتي على أرزاق وأعناق في ظل الجنون المتمادي في لبنان وسائر المحيط. وبرغم أن السادة النواب يصيبون في تقديرهم حساسية الموقف، ويوظفون هذه الحساسية في السياسة جيداً، إلا أنهم أضحوا مصيبة وعالة، ليس على المستوى الوطني العام فحسب، بل بالمعنى الأضيق كذلك، أي لناحية ارتداد مواقفهم على أنفسهم، وعلى المناطق التي يمنّون النفس باختزال تمثيلها يوماً.

يختار الثلاثي البرلماني اللعب مع حالة مخترقة من أجهزة الاستخبارات كافة، لكنها قائمة بذاتها. يضعون يدهم بيد خليفة «الدولة الإسلامية» المعلنة قبل أسابيع، ويستسهلون توظيف الجماعة، فيما أرباب الجماعة وأنصارها يهيئون أنفسهم لتوظيفهم.

أصبح لأبي بكر البغدادي، موضوعياً، مجموعة تؤمن غطاءً لتحركات خلاياه، ورافداً مهماً لخطاب جماعته. لكن السادة النواب يستخفون بفرضيات كتلك. فهم يرون أنهم أعلم بقدراتهم وحاضناتهم الإقليمية وحدود اللعبة التي تمنع الأمور من الانفلات، وهم يبنون تصوراتهم على هذا الأساس.

بيد أن مواقف الثلاثي تشي بخلل كبير في تقدير مآل الأمور، على المدى المتوسط قبل البعيد. وهم ليسوا حالة استثنائية على مساحة المشرق، بل يماثلون حالات حطمت رياحها السفن، لا جرت بخلاف ما تشتهيه فقط.

اختُبر الأمر على مدى الأشهر الفائتة في سوريا والعراق، وها إن الكرة على أبواب الإعادة في لبنان. وبرغم أن اختبار اللعب على حافة الهاوية، ليس الأول من نوعه في البلاد، إلا أنه الأكثر خطورة هذه المرة، لعمق ارتباطه بظواهر تنتشر كالفطر على امتداد قوس أزماتنا الدامي.

ينضم البرلمانيون الثلاثة إلى من سبقهم في لبنان والإقليم، ممن يرعى التطرف تحت جناحيه ويتوهم، لسبب مجهول، أنه قادر على ترويض الوحش واحتوائه إذا أفلت من القفص.

أيظن السادة النواب أن «داعش» (وأمثالها) إذا تغوّلت، سترضى بأي منهم «أميراً» على مناطقه في لبنان؟ أيجهلون أنهم لن يكونوا أكثر من أرقام على لوائح مطلوبيها، شأنهم شأن جميع المخالفين؟ أم أن الجمع المحرِّض يخال الأمر مزحة، وأن «داعش» بأسرها ما هي إلا «صنيعة استخبارات» لا يُعرف عنها شيء ولا وجود لها، كما قال النائب محمد كبارة في تصريح صحافي مدهش باستخفافه (أو إغفاله المقصود للحالة المتطرفة)، قبل بضعة أشهر لا غير؟

فلنتخيل سيناريو تطور هذه الحالة الأصولية ـ لا سمح الله ـ في شمال لبنان، وعاصمته طرابلس ومحيطها العكاري مهيآن لاختبار كهذا، نتيجة ظروف موضوعية لا مجال لتعدادها. أول ما يخطر على البال هو مشهد رئيس الأركان السابق لـ«الجيش الحر» سليم إدريس، صاحب الوسام «الثوري» الرفيع، هارباً من شمال سوريا بعد استيلاء «متشددين» على مقار «جيشه» أواخر العام الماضي، علماً أن الأخير فرّ نتيجة احتكاك جنده بقوات «الجبهة الإسلامية» حينها، أي أكثر المتطرفين «اعتدالاً» على ضفة المعارضة السورية المسلحة، مقارنة بـ«داعش» أو «النصرة».

يُسجَّل للنواب الثلاثة امتلاكهم مخيلة خصبة، تُوَظّف عند استحقاق كل موعد تحريض.

فليتخيل السادة النواب المشهد المذكور إذاً، وليحفظوه في ذاكرتهم جيداً!