IMLebanon

إلى تجار العجز وسماسرة الدستور…

يمكن للسياسيين المعنيين باستحقاق الانتخابات الرئاسية التراشق بالاتهامات قدر ما شاؤوا. ويمكنهم استغلال منبر كل موعد انتخابي مفترض، لتبادل الهجمات وشن الحملات واستثمار اللحظة الإعلامية في خطب وسجالات عنترية لا تنتهي عند حد ولا تقف تحت سقف ولا تغني ولا تسمن. لكن هؤلاء أنفسهم يدركون، قبل غيرهم، أن انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية ليس كما يصورون ولا مثلما يتصورون. فهو في آخر المطاف صندوق اقتراع.

لكن قبل الوصول إلى الصندوق، هم يدركون أكثر مما يتشدقون، بأن رئيسنا نتاج عملية سياسية طويلة شائكة معقدة، فيها محطات وجولات ومراحل من الطبخ والتسوية والإنضاج… وهو ما لم يتم شيء منه بعد. لماذا انتخاب رئيس للبنان ليس مجرد عملية انتخابية بسيطة، كما يتوهمها، بكلام حق يراد به باطل، كثيرون اليوم؟ لأسباب عدة أبرزها التالي، من العام إلى الخاص: أولاً لأن اختيار الرئيس عندنا خاضع ــــ لسوء الحظ ولعنة التاريخ والجغرافيا والأشخاص ــــ لاعتبارات خارجية وتدخلات دولية واعتبارات وحسابات تتخطى ساحة النجمة ونجوم جلساتها المجهضة.

لا لزوم لاستعادة التاريخ والماضي والسوابق، يكفي سؤال الحرصاء اليوم: هل أنتم من رشحتم وانتخبتم ميشال سليمان في 25 أيار 2008؟ أم كان قد طبخه عمر سليمان وأنضجه فلتمان وإيمييه، وبايعه شاكر العبسي في صفقة معركته وتهريبه، وسوّاه كل العرب ومعظم أهل الكرة الأرضية في الدوحة، قبل أن ينتهي تهريبة دستورية خلافاً للدستور، بصمتم عليها؟ واليوم اليوم بالذات، ألم يستنفر أولئك السياديون يوم الأربعاء الماضي، لحظة وصول جون كيري إلى بيروت، مشرئبي الأعناق مشنفي الآذان، ليتسقطوا ما إذا كان ناظر واشنطن الخارجي قد جاءهم باسم رئيسهم؟ ثم ثم، ألم يسمع أصحاب نظريات الاستقلال المطلق بكلام سعود الفيصل حول رئاستنا ــــ أو رئاستهم ــــ وشروطه وقيوده وفروضه؟ وللتذكير، وهو التذكير الذي يحمل أكثر من بعد وعهد، هو سعود نفسه الذي فرض عليهم نظامهم ودستورهم الكارثة، قبل ربع قرن في تلك الأرض العائلية، يوم دخل عليهم في اجتماع الطائف مؤنباً موبخاً مبكتاً، ضارباً يده على طاولتهم، التي هي طاولة عائلته، قائلاً لهم بلهجة الآمر الناهي: Take it or break it، فأخذوه من يده صاغرين، وصار لنا دستوراً مفخخاً مفجوماً، لم يصلح إلا لوصايات كل غاز في كل عهد وغزو؟ تريدون حقائق أكثر؟ هل سمعتم بمحضر لقاء سفيره في صرح وطني روحي كبير، أعطي له مجد لبنان، وتردحون حوله مستغلينه متراساً لإطلاق النار منه اليوم، بعدما أطلقتم النار عليه بالأمس، وماذا تضمن ذاك المحضر عن كلام سعادته حول رئاستنا وأشخاصها وانتخاباتها؟ يكفي الكلام عند هذا الحد. فذروة الخبث في السياسة اللبنانية أن الكل يعرف أسرارها، والكل يعيش على قاعدة صمت مافيوزي ــــ على طريقة «أومرتا» ــــ بتجاهل الأسرار وادعاء براءة الجهل…

ثم إن انتخاب الرئيس عندنا ليس مجرد صندوق اقتراع، لأنه موقع مركّب معقد التكوين والتمثيل والتشكيل. فهو رأس الدولة، لكنه ممثل المسيحيين في نظامها. هو رمز وحدة الوطن، لكنه الماروني الأول في النظام. هو الساهر على الدستور، لكنه انبثاق للميثاق. هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكنه لا يقود منها شيئاً، حتى بات كل قائد لها يقوده حلمه أو الوهم إلى مركزه. هذا الرئيس المعقد في آلية اختياره، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكون نتاج دورة علبة خشبية على أوراق معظمها معلّب وبألسنة من خشب. كيف تؤمَّن المواءمة بين كل مقتضيات هذا الرئيس، من المذهبي إلى الطائفي إلى الوطني، إلى مقتضى بناء الدولة وقيام الوطن وعدم تكرار مساخر الموظفين ومهازل الخشبيين… كيف تترك اختيار رئيس لأشخاص لم يخترهم من يمثلون؟ أين النواب المسيحيون الأربعة والستون الممثلون لإرادة المسيحيين، وفق الميثاق والمادة 24 من الدستور، ليقرروا مصير رئيسهم بالتوافق مع باقي اللبنانيين؟ كل هذا في عقدة الاستحقاق الرئاسي اليوم، وهو ما يدركه المتنطحون…

يبقى ثالثاً وأخيراً، أن انتخاب الرئيس ليس استنساخاً لانتخابات أحزابهم الديمقراطية ــــ تُرى من منهم انتخبه حتى محازبوه؟؟ ــــ لمجرد أن دستورنا ينص على انتخاب الرئيس بشكل غير مباشر. اي عبر النواب. وهي آلية في حد ذاتها، وبالمفهوم الديمقراطي البرلماني، عملية تسووية بامتياز. وهي تسليم مسبق بديمقراطية التعطيل والغياب وحق الأقلية وسلاح النصاب وغير ذلك مما تنص عليه علوم القانون الدستوري، مما لا يفقهون منه إلا تطبيق مثل «لا شورى ولا دستور» حين الأمر لصالح حساباتهم. آخر نموذج مطابق لآلية انتخاب رئيسنا، كان قد مثّله دستور تركيا، حتى تعديلات العام 2007 عليه. كان الدستور التركي ينص على انتخاب الرئيس من البرلمان. ولأنه كذلك، كان يفترض احتمال التعطيل. والتعطيل المستمر والمتمادي. ولذلك كان قد لحظ في المادة 102 منه، أنه عند عجز النواب عن الانتخاب، يعتبر البرلمان منحلاً وتدعى الهيئات الناخبة إلى انتخابات نيابية فوراً. وظل هذا الواقع حجر عثرة، حتى جاء تعديل 21 تشرين الأول 2007، فجعل انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة.

في لبنان عندنا اليوم المشكلة نفسها، مضاعفة بالاعتبارات الميثاقية وبالعوامل الخارجية. والثابت أن عندنا عجزاً برلمانياً عن انتخاب رئيس بموجب الدستور، بلا تهويل ولا تطبيل. وصودف أن موعد الانتخابات النيابية بعد أسابيع. فلنذهب إليها. وبقانون يعطي الحق لكل مستحق. وإلا فلنذهب أبعد، إلى رئاسة حقيقية، منتخبة من الشعب مباشرة. وإن على مرحلتين، تسمح أولاها بحفظ البعد التمثيلي الميثاقي للرئيس، على أن يكون انتخابه في المرحلة الثانية ضمانة لتمثيله الوطني العام.

وإلا فعلينا الاستمرار في اجترار العجز، والاستماع كل مرة إلى تجار العجز وسماسرة دستور سعود الفيصل، يحاضرون في السيادة والديمقراطية.