لا كلام يعلو قامة غزة. كل قول فيها نقصان ووحيها لا يكتمل. تسبق الجميع إلى الآية: “هنا غزة، هنا عاصمة عربية، بطريقة فذة، عاصمة، لا تشبه قبائل المدن في الشتات العربي المنحرف إلى القتل والاقتتال والتقتيل. غزة، العاصمة المقفلة من كل الجهات، افتتحت بجراحها طريقاً إلى فلسطين، فالعبور منها إلى القدس، لم يعد بعيداً.
إنما، لماذا عندما امتدحها خالد مشعل، بخطاب تستحقه، بدت وكأنها أخذت من مكانها إلى…؟
نتعلم في غزة، كيف تكون الحياة بطريقة غير مسبوقة، وكيف يكون الموت محتفى به ومجللاً بالأعراس والزغاريد، وكيف يكون الموت صديقاً للحياة؟ نتعلم، كيف يخرج الناس إلى وداع الشهداء وكأنهم يستقبلون الوطن، أو كأنهم ماضون إلى أبعد من المثوى الأخير، إلى فلسطين، جنة المؤمنين بها أرضاً مقدسة يستحقها الجميع.
إنما، ونحن نستوحي دروساً من غزة، لماذا عندما سجل خالد مشعل ما حققته في كلمة مديدة، خصها بالإعجاز، وهي كذلك، بدا وكأنه يمنعها عمن أحبها من بعيد، وانتمى إليها بالروح والسلاح والدم… إنما لماذا؟
نقصّر كثيراً في أخذ العبر، لكثرتها. لقد أرست غزة، معادلة جديدة: يستحيل على إسرائيل أن تبقى. ما دون ذلك، على أهميته، يدرك سريعاً: يستحيل على إسرائيل انتزاع سلاح المقاومة، ويستحيل التخلي عنه، مهما كان عدد الشهداء من الأطفال. هذه مدينة أطفالها صُنّاع مستقبلها.
ويستحيل بقاء الحصار والاحتلال، مهما أبيدت عائلات من ذريتها، فشجرة العائلة في فلسطين، متوغلة في التاريخ، هي بعمر الزيتون المعمّر والصلوات المعتقة التي لم تتوقف تلاوتها منذ الآلاف من الأعمار.
قالت غزة ـ فلسطين لـ”إسرائيل”: نحن باقون هنا إلى الأبد، فابحثي عن مكان آخر. وهي إذ تقول ذلك، تنظر بعين الرضى والأمل، مما قاله خالد مشعل بأن غزة ولاّدة وتُقتفى أمثولة وعطاءً وعدوى. فإذا كانت غزة قد أحدثت هذا الصدع في كيان العدو، فكيف إذا تشبّهت بغزة، مدن وبلدات ودول… غزة تنبئ بأن “إسرائيل” إلى نهاية.
إنما، لماذا لم يشر خالد مشعل إلى شقيقات غزة في لبنان. فلسطين في لبنان، عمرها من عمر “الكيان الغاصب”. وُلدت فلسطين في أواخر الأربعينيات. حولا كانت بداية التحوّل اللبناني، إلى فلسطين. إن كان هذا مجهولاً، لأنه قديم، فإن احتلال إسرائيل للبنان مراراً وتكراراً ولسنوات وعقود، كان بسبب فلسطين. ولا منّة في ذلك. فكاتب هذه السطور، وهو الأقل رتبة من الجميع، هو فلسطيني من لبنان. وليس فلسطينياً لاجئاً في لبنان. فلسطينيتي أصلية كلبنانيتي.
فلماذا لم يشر خالد مشعل إلى حاضنة فلسطين الدائمة؟ فيما كنت أستمع إلى خطابه، انتميت إلى الانتصار. أنا والآخرون ومن هم مثلي وأفضل مني بكثير، احتفلوا بغزة فرحين، بعد معاقرة الخوف عليها، وبعد ليالي ونهارات الدمع على أطفالها ونسائها ورجالها وشيوخها وقادتها، وبعد المبادرة، بكل ما أوتوا من انفعالات ورغبات وتوقعات، كنا نتابع مدحه لغزة، واعتبر نفسه مقصراً، لأنها فوق المدح، إلى أن بلغ تخوم الشكر… فلماذا لم يشر إلى لبنان بحرف؟
أنا المواطن الفلسطيني من لبنان، ومساهماتي الفلسطينية من كلام وكتابة وحبر، أصبت بإحباط. فكيف يشعر لبنانيون، قدّموا فلسطينهم على لبنانهم. احتضنوا فلسطين كهوية وقضية وبندقية. احتضنوا وقاتلوا وتبنوا واستشهدوا. كانوا مع “فتح” أبو عمار، و”جبهة” جورج حبش، وأيلول الأسود، وباقي التنظيمات. تغاضوا عن الأخطاء الفلسطينية الكثيرة. رفعوا فلسطين إلى المستوى القومي والإنساني. اصطدموا بدولتهم وسلطتهم وجيشهم وأحزاب تناصب الفلسطينيين العداء. وقفوا بوجه التدخل السوري، الذي تدخل ليحمي “لبنان” منهم، وليضعهم تحت قبضته. وقاتلوا إسرائيل. وإسرائيل احتلت لبنان بسبب فلسطين، وليس بسبب الليطاني أو لطرد اليسار الدولي من لبنان.
اللبنانيون قاتلوا إسرائيل وهزموها في كل مواجهة: في البربير، في الجبل، في الإقليم، في صيدا، في الجنوب، حتى جنوب الجنوب، كانت بيروت غزة لبنانية ولم ترفع الأعلام البيضاء، ولم تستسلم.
قبل غزة الجليلة، والتي هي اليوم في مقام المقدّس، كانت بيروت. ألا تستحق هذه المدينة أن يؤتى على ذكرها؟ حسناً؟ لعله النسيان، وليس النكران.
إنما، وللبنان سبق الانتصار على الاحتلال. وهذا السبق ليس مباهاة، بل هو ذكرى، توحي للثوار، على عادة الاستفادة من التجارب الثورية وتجارب المقاومة. المقاومة اللبنانية بفروعها المتعددة، انتصرت على إسرائيل، في معارك موضعية. أما الانتصار العظيم غير المسبوق، فهو الذي جاء على يد المقاومة الإسلامية في لبنان، بقيادة السيد حسن نصر الله ورفاقه.
أن لا يُذكر “حزب الله” في رأس القائمة، فهذا ليس من باب النسيان. إنه النكران بذاته. هل تُنسى الضاحية؟ هل تُنسى بوابة فاطمة؟ هل تُنسى قانا؟ أنا فرد ووحيد، وشعرت بالغبن، وما أتيت المقاومة إلا حفنة من كلام. فما هو شعور أبناء المقاومة في لبنان؟ أهو الغضب؟ لا بأس! فليكن الصبر، لأنه أرقى.
من الضروري التذكير بأن اللبنانيين جاؤوا فلسطين، بهوية غير دينية. كنا قوميين ويساريين وعروبيين وعلمانيين وملحدين وعقائديين أحراراً. هويتنا الفلسطينية لم تكن شيعية أو سنية. وإذا كنا اليوم مع “حزب الله” ومع “حماس”، فلأننا “خوارج” على الانتماءات القبلية. مذاهبكم لا تخصنا.
أما بعد، فلنذهب إلى الجد.
لا ضير أبداً في ولادة محور سني يدعم المقاومة المسلحة في فلسطين، بدءاً من غزة. لعل هذا يعتبر إضافة مهمة جداً لفلسطين. أن تكون تركيا وقطر إلى جانب تيار “الإخوان” قد وضعوا ثقلهم في هذا المسار، فهو يخدم فلسطين، وإن كان البعض يشك، ولست منهم، بأنه يخدم “إخوانية” “حماس”. ومن الإيجابيات أن يكون هذا الحلف الجديد، أو هذا المحور المستجد، بقيادة المقاومة، لا أن يكون قائداً للمقاومة، بسبب الالتباسات الكثيرة، حول قطر تحديداً وطبيعة نظامها وحول تركيا كذلك.
أن تصبح فلسطين مخدومة من محورين، واحد سني، وآخر شيعي، يمتد من إيران إلى سوريا وما تبقى من نظامها، إلى حزب الله، فهذا يشكل إضافة استراتيجية. إنما، إذا كانت فلسطين قد جمعت السني والشيعي معاً، فلماذا هذا التباعد، في فلسطين وخارجها. مفهوم أن لا تتطابق الخنادق في سوريا والعراق وسواها. مفهوم أن يكون السني مع السني والشيعي مع الشيعي، مع كل الأسف لهذه الحالة التي وصلنا إليها. ولكن من غير المفهوم، أن ما توحده فلسطين، يتهاوى في دمشق وبغداد وسواها. ومن المعيب، أن لا نذكر المقاومة الإسلامية بكلمة، ببنت شفة، علماً أن القاصي والداني، يعرف مدى التعاون ومدى المدد ومدى الاحتضان الذي حظيت به “حماس” هناك في فلسطين وهنا في لبنان، وبينهما في سوريا، وأساساً في إيران.
غزة فوق كل الخلافات.
فلسطين فوق كل المحاور.
المطلوب، قمة سريعة، بين نصر الله ومشعل، لرسم خريطة طريق، لمقاومة واحدة بعناوين متعددة، وليس بمذاهب متعادية. إذا لم يكن ذلك كذلك، فقد تبقى غزة وحيدة، بلا أخوات…