قيل سابقاً إنه لو شوهد الملك حسين على حصانه يقتحم ــــ ولو رياءً ــــ معبر اللنبي فاتحاً الطريق إلى القدس، للحق به الناس، لأنهم لن يسيروا إلا خلف من يرفع الراية.
وقيل، أيضاً، لو أن حسني مبارك قاد ــــ ولو رياءً ــــ تظاهرة لإغلاق السفارة الإسرائيلية في القاهرة، لصفح الناس عن خدماته لأميركا وإسرائيل.
وقيل، أيضاً وأيضاً، لو أن حكام العرب غضبوا ــــ ولو رياءً ــــ ورفضوا التحدث مع الغرب، وأقفلوا أنابيب النفط ليوم واحد نصرة لفلسطين، لرفعت صورهم إلى جانب صور الشهداء.
أول من أمس، كادت شرايين ياسر عبد ربه تخرج من رقبته وهو يصرّح نصرة لأهل غزة. قبله، كان صوت محمود عباس يصمّ آذان المشاركين في اجتماع القيادة الفلسطينية، وهو يتحدث عن حق المقاومة في القطاع المستفرد. لكن فلسطين لا تحتاج إلى مزيد من الصراخ، ولا تحتاج إلى أفعال فوق الطاقة أو فوق المرتجى. ما يمكن سلطة رام الله أن تقوم به هو أن تترك الناس يدافعون عن أنفسهم بأنفسهم. وما يمكن عباس أن يفعله هو أن يحفظ كرامة نفسه وأهله وشعبه، وأن يعتصم في مقره، ويجمع معه كل قياداته السياسية والأمنية، وأن يطلب إلى شرطته العودة إلى منازلها، أو حماية الناس الغاضبين في الشارع.
انتفاضة الضفة الغربية واجبة لنصرة غزة وحصولها سيدفع العدو
إلى جدار الهزيمة
ليترك عباس أهل الضفة ينتفضون لدماء إخوتهم في غزة. وكل خشية من مآل الانتصارات غير منطقية. فلا أحد يخاف انتصار المقاومة إلا عدوها. هذا ما خبره الفلسطينيون منذ عقود، وخبرناه نحن في لبنان.
يعرف عباس أن إسرائيل لا تقيم له وزناً. وهي كانت تطرده كلما طرق بابها قاصداً التسوية والصلح. وكانت ترفض أي وساطة دولية معها لدعمه أو شد إزره. وكانت تقمع كل محاولة لتثبيت سلطة مستقلة عن أوامر الحاكم العسكري. وكانت تقابل كل تنازل منه بفوقية تجعله يستعد لتنازل جديد. وهي لم تقابله يوماً إلا بالإهمال والإهمال والإهمال.
على ماذا يخشى عباس بعد؟
هل يعتقد إن هو أعلن مقاطعة العدو وحلفائه، بأن إسرائيل ستعيد احتلال كل فلسطين؟
وهل يعتقد بأن القتل سيكون أكثر قسوة مما يجري الآن؟ وهل يصدّق، فعلاً، أنه رئيس سلطة يخشى عليها من الانهيار؟ وهل يعتقد بأن الاحتلال المقنّع أقل قسوة من الاحتلال المباشر؟
إذا كان بعض من حوله ممن يستفيدون من هذه السلطة الكرتونية، ويستثمرون قهر أهلهم في مكاسب تافهة، يخشون على أنفسهم ومصالحهم، فليس لهؤلاء قيمة من دونه. إذ إنه الغطاء الحقيقي لكل هؤلاء. ومتى قرر إعلان الغضب، ووقف قمع الناس، سيدرك أن مكانته عند أهله ستكون أعلى بما لا يقاس من المكانة التي يضعه فيها العدو اليوم.
في «فتح»، اليوم، أزمة هوية وأزمة الانتماء. وما الاتصالات والاحتجاجات وبيانات التمرد، إلا إشارة إلى أن الكوادر الذين هم على تماس مع الشارع، يعرفون أنه لم يعد هناك من مجال للصمت، وأنه لا مجال بعد اليوم لبيع الناس أوهام السلام والحلول السلمية. هؤلاء يعرفون أن إرث «فتح» النضالي يمكنها من لعب دور محوري في قيادة حركة الاستقلال الوطني. ويدرك هؤلاء، تماماً، أن مقاومة غزة تحتاج نضالات «فتح»، وأن الهوية الوطنية الفلسطينية لا تقوم من دون مقاومة قادرة على تحرير الأرض، وأن الانتماء إلى فلسطين ليس عبر ورقة صدر الإذن عن إسرائيل بطباعتها وحيازتها.
ثمة أسباب كثيرة تدفع أهل الضفة إلى الانتفاضة، أو أقله لهبّة شعبية، تكفي لإشعار العدو بأن الأزمة تتجاوز حدود القطاع. والمعنى الفعلي لأي مصالحة وطنية، هو بانضمام الضفة اليوم، وقبل الغد، إلى معركة الدفاع عن فلسطين التي تخوضها غزة. وإذا كان في الضفة، كما في مناطق كثيرة من فلسطين أو العالم العربي، من لا تعجبه حركة حماس، أو لا يريد موالاة حركة الجهاد، فما عليه إلا رفع لواء المقاومة. وليحجز له مكانته الحقيقة في قيادة الشعب الفلسطيني.
هبّة الضفة ستكون الدافع الأكبر لجعل الشارع الفلسطيني في مناطق الـ48 أمام استحقاق وطني هو الأكبر في تاريخه. وستلمس إسرائيل لمس اليد، أنها مرفوضة في كل مدينة وقرية وناحية من أرض فلسطين. وأن كل سنوات الاحتلال لا تمنحها شرعية امتلاك الحق المغتصب.
يا عباس، أغث الضفة ولو رياءً!