قبل بضعة أسابيع، أرسل مقرّبون من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى واشنطن رسالة طلب إغاثة فحواها أن الوقت حان لإيجاد وسيلة لإخراج المالكي من الحكم بلياقة وإلاّ فإن بقاءه سيؤدي إلى حرب أهلية دموية في العراق تنتهي بالتقسيم، إن لم يكن بالشرذمة، يُسفر عنها إنماء فظيع للتطرّف الإسلامي والصراع المذهبي المدمّر. واشنطن، كعادتها في زمن الرئيس باراك أوباما، أخذت وقتها للتمعن في التفكير البطيء لتزن انعكاسات أي خطوة تتخذها في العراق أو سورية على مفاوضاتها النووية مع إيران. اليوم وقد بدأ انهيار الجيش العراقي في الموصل بعد سقوط محافظة نينوى في يد «داعش»، حان لواشنطن بدء التفكير الجدي في الخيارات المتاحة قبل فوات الأوان. أولى تلك الخطوات يجب أن تبدأ بالتفاهم ثنائياً مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية على ضرورة ترحيل نوري المالكي إلى دولة مجاورة صديقة لطهران لعلها مثلاً تكون عُمان، هذا إذا كانت واشنطن تريد حقاً إنقاذ العراق من التشرذم. أما إذا كانت الخطة أساساً تهدف إلى تقسيم العراق ووضع جنوبه في العهدة الإيرانية كجزء من خريطة التفاهمات الإقليمية، فإن تمكين تنظيم «داعش» من النمو كجيش صغير متحرك عبر الحدود العراقية– السورية، هو جزء من تلك الخطة.
ما حدث هذا الأسبوع في العراق مروع، إذ إن هذا هو الانهيار الثاني للجيش العراقي، يذكّر بانهياره الأول على أيادي الرئيس السابق صدّام حسين عندما تركه مهزوماً على الطرقات من دون أن يُعلِمه انه خسر المعركة.
انهيار الجيش العراقي في عهد المالكي لم يأتِ من فراغ، فرئيس الوزراء أتى إلى بغداد من طهران بحماية أميركية زعمت أن نشر الديموقراطية كان الهدف من غزوها واحتلالها العراق. خروج القوات الأميركية من العراق لم يكن ممكناً بدون نجاح استراتيجية ديفيد بيترايوس المعروفة بـ «الصحوات»، والتي اتخذ فيها القبائل السنّية شريكاً له في محاربة التطرّف الذي تتبناه «القاعدة» ومشتقاتها.
نوري المالكي افترض أن الحماية الأميركية له والتمسك الإيراني به يشكلان دعماً لديكتاتوريته في وجه كل من عارضه، زاعماً أنه يحمي أولاً الشيعة وثانياً العراق. واقع الأمر أنه بات يقدّم شيعة العراق والعراق نفسه ذخيرة للحروب السائبة وللخطط اللئيمة، أميركية كانت أو إيرانية أو «داعشية» أن تتبع كل من وراء هذا التنظيم الإرهابي.
حان لنوري المالكي أن يرحل، فهو خسر القاعدة الشعبية التي تشكل نسيج وحدة العراق، وهو اليوم يستجدي التطوّع من الناس الاعتياديين للتعويض عن انسحاب الجيش العراقي من المعارك. إنه بذلك يزيد من تفكيك الجيش العراقي، عمداً فَعل ذلك أو سهواً.
المشكلة تكمن في أن طهران تملك قرار بقاء نوري المالكي في السلطة أو خروجه منها، وإيران متمسكة به حتى الآن.
الدول الغربية تزعم أنها بدأت تتناقش مع إيران في أدوارها الإقليمية الممتدة من العراق إلى سورية (ولبنان) إلى اليمن. إيران لن تتخلى عن العراق، فهو يشكل لها فوزاً قدمته الولايات المتحدة في عهد جورج دبليو بوش أثناء حربه على الإرهاب في العراق. تلك الحرب نسفت العراق كلياً من المعادلة الاستراتيجية مع كل من إيران وإسرائيل وحيّدته كلياً في موازين القوى الإقليمية، فالعراق كان هدية أميركية غالية لكل من إيران وإسرائيل، وتركيا أيضاً، عندما تم تدجينه وسحبه من المعادلات الاستراتيجية.
إيران لن تكتفي بإزالة خطر العراق الاستراتيجي عليها كما مثّلَه صدام حسين، إنها مصرّة على تدجين العراق في الحظيرة الإيرانية، وهي ترى أن نوري المالكي يضمن لها ما تريد ولا تود الاستغناء عنه طوعاً، فإذا كان الخيار لها بين عراق موحّد بلا نفوذ لها عبر المالكي وبين عراق ممزق، فهي تفضل عراق ممزّقاً ومقسّماً لها على جنوبه هيمنةٌ دائمة ووسيلة لتطبيق ذلك الحزام -أو الهلال- الشيعي، كما سماه المحافظون الجدد في عهد جورج دبليو بوش، الممتد من شرق السعودية إلى العراق وإيران وجزء من سورية ولبنان إلى إسرائيل، ففكرتهم قامت على ضرورة تقسيم الأراضي العربية كجزء من إزالة الدول العربية من المعادلة الاستراتيجية مع إسرائيل، وقامت أيضاً على تطوير فكرة التهادنية التاريخية بين الفرس واليهود لاحتواء الهيمنة السنّية وإلحاق الهزيمة بالتطرف السني الذي قام بإرهاب 2001. ما حدث في الحرب السورية للسنوات الثلاث الماضية دخل في تلك الحسابات، كما بات واضحاً اليوم، كما أصبح جلياً أن طهران جزء من ذلك التفكير وترى أن النظام في دمشق هو الضمانة لها سورياً ولن تسمح بسقوطه إلا مُرغمة.
قد يكون اليمن هو الساحة الوحيدة للتنازلات والمساومات بين الدول الغربية –بالذات الولايات المتحدة– وبين إيران التي تلعب دوراً هناك، فاليمن أقل أهمية لطهران من العراق وسورية، وهو قابل للأخذ والعطاء، بالذات في إطار تقارب سعودي – إيراني، بل إن هناك في المعسكر الذي يضم إيران وسورية ولبنان والعراق من يقول –مبرراً احتفاظ إيران بالعراق وسورية ولبنان– إن مساحة المساومة هي إعطاء السعودي تنازلات في اليمن وفي البحرين.
إدارة أوباما تستخدم الطائرات بلا طيار drones في اليمن لمحاربة «القاعدة» ومشتقاتها. هذه الحرب تقتل قيادات وزعماء «القاعدة» وليس جيوش «القاعدة» ومشتقاتها، وهي لا تؤثر على قواعد «القاعدة»، ولذلك الانتصارات فيها وهمية، وكذلك الانتصارات المزعومة في حروب العراق وسورية ضد «القاعدة» أو «جبهة النصرة» أو «داعش» أو غيرها، انما هي عابرة وذات ردود فعل عكسية، وهذا يُطبَّق أيضاً بالدرجة نفسها على المجنّدين في الجيوش المتحركة والممولين لها من المتطرفين السُنَّة والشيعة على السواء، أفراداً كانوا أو حكومات أو تنظيمات أو عائلات أو ميليشيات أو شركات، فالفاعل العربي في تمزيق العراق وسورية ولبنان –مهما كانت جبهته ومزاعمه وتبريراته– إنما هو عميل للإرهاب وأداة في خطط تمزيق المنطقة العربية.
الولايات المتحدة ليست بريئة من هذه الخطط، بل هي –في أذهان الكثيرين– الطرف الذي يصنع التطرّف ويشجعه، سنّياً كان أو شيعياً، من أجل تقسيم المنطقة العربية، كما أنه ينصب إيران مهيمناً عليها بشراكة إسرائيلية.
الأكراد أدركوا أن الخريطة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط قد تكون الفرصة المنتظرة لمستقبل كردستان، ولذلك انقلبت معادلات العداء التقليدية مع تركيا بالذات، وصعدت الاعتبارات النفطية إلى سلم الأولويات لاجتذاب ولاء الغرب ودعمه الطموحات الكردية.
فبينما «داعش»، بعشوائيتها وأيديولوجيتها المدمرة وجهلها الفظيع، تمتد من دير الزور إلى حدود كردستان لتسجّل انتصاراتها البائسة، تتحرك القوى الإقليمية والدولية لاستغلال الأوضاع لصالحها، وفيما «حزب الله» يعتقد أنه قوي يُؤخَذ به أميركياً، وليس فقط إيرانياً أو عراقياً وسورياً، يبقى مساهماً عابراً في الانتصارات الوهمية، لأنه في الواقع فاعل في المصلحة الإيرانية كما تصوّرها المحافظون الجدد، بمدّها الإسرائيلي على الحساب العربي قطعاً.
جميع الجيوش المتحركة عبر الحدود تتصوّر نفسها صانعة التاريخ الجديد بانقلاب على حدود سايكس– بيكو. إنها جيوش تحطيم الحدود وإلغائها، ولا أحد -حسبما يبدو- يقف في وجهها مهما تظاهرت دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) بالهلع ومهما صدر عن الأمم المتحدة من بيانات القلق، والمخيف هو أن تكون هناك قوى دولية داعمة لقيام الجيوش المتطرفة المتحركة بعبور الحدود لاستخدامها في حروب الاستنزاف وتفكيك الجيوش التقليدية لتنفّذ التقسيم الذي يتربص بالمنطقة العربية.
«داعش» ليست أبداً الرد على خطط تمزيق المنطقة العربية وإعلاء اليد الإيرانية عليها، بل هي حقاً أداة في تلك الخطط، إن أدركت ذلك أو كانت ساذجة أمامه. «داعش» تحطّم العرب وتحطّم أيضاً الاعتدال السنّي، لأنها جزء من مشروع خطير انساقت إليه طوعاً أو صدفة. كل من يمد العون إلى «داعش» وأمثالها، من «جبهة النصرة» إلى تنظيمات وميليشيات سلفية أو مهووسة سلفياً، إنما هو مساهم مباشر في انهيار سورية والعراق معاً مهما بدا له أنه ينجح في صنع التاريخ.
العراق اليوم على حافة الانهيار إلى حرب أهلية وتقسيم، إن لم يكن التشرذم، ولا أحد سيخرج منتصراً في الحرب العراقية الآتية، باستثناء طرف واحد ربما، هو كردستان.
الهرولة الأميركية من العراق في أعقاب حرب كلّفت التريليونات ومئات آلاف الأرواح، ما زالت تشكل لغزاً صعب فهمه. التفسير المقنع الوحيد هو -ربما- اكتشاف الولايات المتحدة ضخامة مخزونها النفطي الذي يغنيها عن نفط العراق وكامل النفط العربي، والتفسير الآخر هو أن الصناعات العسكرية الأميركية ربما امتحنت منتوجاتها الجديدة في العراق فاكتفت. النتيجة أن الولايات المتحدة هجرت العراق وتركته عرضة لمن يريد بعدما شنَّت حربها على الإرهاب في المدن العراقية كي تعفي المدن الأميركية من تلك الحرب.
السؤال الآن هو: كيف ستتباحث إدارة أوباما مع إيران في شأن العراق بعدما هزمت «داعش» الجيش العراقي وأجبرته على الانسحاب من الموصل؟ وما هي جدية الاستراتيجية الغربية في المفاوضات مع إيران في شأن سورية؟ بكلام آخر، هل تأتي «إنجازات» جبهة «داعش» في العراق وسورية كهدية ثمينة للمفاوض الإيراني ليعرض نفسه الشريك الجدي للغرب في القضاء على التطرف السلفي؟ الأرجح نعم.
نوري المالكي لمّح إلى أنه بات جاهزاً للسماح للطيران الأميركي أن يقصف مواقع «القاعدة» داخل العراق، وواشنطن اتخذت قرار إرسال الأسلحة الجديدة لمحاربة الإرهاب في العراق…
تركيا دعت إلى اجتماع طارئ لحلف «الناتو» بعدما خطفت لها «داعش» 48 مواطناً، إضافة إلى 28 آخرين، وقد تجد تركيا في «داعش» فرصة لها لتعميق توغلها عسكرياً في شمال العراق، مع أنها اليوم أكثر تقبلاً من أي وقت مضى لإقامة دولة كردستان.
إيران قد تكون مرتاحة لهدية «داعش» لها في إطار المفاوضات مع الغرب، لكن «داعش» تبقى شوكة في الخصر الإيراني بشقيه العراقي والسوري، فلن يكون سهلاً على إيران إلحاق الهزيمة بـ «داعش»، بغض النظر إن حاولت ذلك مباشرة أو عبر حليفها «حزب الله». بل إن إيكال مهمة محاربة «داعش» إلى «حزب الله» قد تؤدي إلى الإنهاك المتبادل والاستنزاف الثنائي لهما معاً، وقد تكون هذه موسيقى عذبة في قلوب الأميركيين.