IMLebanon

إنها ساعة الحقيقة… إنه الإمتحان الأكبر والأخطر

لم تكن الأجواء اللبنانية، بما يطاولها من شروخ عميقة في بنيتها الوطنية ووحدة الموقف والكلمة والتوجه والممارسة السياسية لدى أبنائها، إلاّ لتدل على توقعات غير مطمئنة، وأحداث مرتقبة مجبولة باللهب والعنف والأخطار المقلقة.

ولم تكن الأحداث الإقليمية التي فاجأت الجميع منطلقة من العراق، من خلال الظاهرة الداعشية وممارساتها المشبوهة، إلا لتؤكد على هذه التوقعات ولتؤشر عليها بكثير من الصحة والدقة والتحسب الشديد.

ولا نحتاج إلى كثير من التبصّر والقدرة على التقييم، لنشارك الرئيس بري والرئيس سلام والرئيس الجميل والوزير وليد جنبلاط وقائد الجيش وغيرهم من قادة البلاد، في اعتبارهم أن ما حصل، هو شديد الخطورة، ويمثل الخطر الأهم والأكبر الذي طرأ على البلاد في السنوات الأخيرة.

إن غزو الأرض اللبنانية من خلال اجتياح القرى الحدودية واحتلال عرسال ومنـع أهلهـا من مغادرتها ليكونوا دروعا بشرية يحتمي بها المحتلون بكل ضرواتهم وصنوف الغدر والطعن بالظهر التي طاولوا بها العرساليين، إنما يمثل في المرحلة الحالية، ساعـة الحقيقة التي لا بـد للبنانيين، كل اللبنانييـن بكل طوائفهم ومذاهبهم وفئاتهم وجهاتهم، أن يقفوا عندها لتدارس أخطائهم وخطاياهم بحق الوطن وحق أنفسهم، بعد أن دقت نواقيس الخطر في أرضهم، كل أرضهم، (رغم انحصار الأخطار والأضرار، آنيا بعرسال، ولواحقها) وبعد أن دفعت الأحداث المستجدة بالـبلاد إلى مهاوي الإنهيار والضياع. إن ساعة الحقيقة، لا بد وأن تضع الجميع أمام مسؤولياتهم وواجباتهم تجاه الوطن وتجاه أنفسهم وأن توجب عليهم إطلاق اعترافات صريحة وصادقة بما ارتكبه كل منهم من موبقات تمثلت في ترسيخ بنيانهم الوطنـي على أسس الطوائف والمذاهب، والتناطح والتقاتل على المناصب والكراسي، والتحايل والتكاذب فيما بينهم إلى حد تلاصقت فيه أحجار بنائهم الوطني بجملة من الأكاذيب والمواقع المزورة والمواقف التحايلية والإحتيالية.

إنها ساعة الحقيقة، وإذا كان لوطننا حق علينا لنصونه من الضياع والخراب والدمار، فلنعترف تباعا، بدءاً بالإعترافات السريعة التي تبدأ فتقرّ: بأن بعضنا قد سلّم أمره وقياده ورهن وجود بلاده ودولته للخارج، وبعضنا الآخر تحلل من كل رباط وطني ما بينه وبين اخوته الآخرين في الوطن، فكبّر فشخته إلى حد وصلت فيه أقدامه وسلاحه إلى سوريا وإلى أبعد من سوريا، ولم ينفع في معالجة هذا الشطط الخطير الذي انتهجه، لا ميثاق ولا دستور ولا قوانين ولا تفاهم وطني بحدوده الدنيا أو العليا، ولا تهديد الوحدة الوطنية والإسلامية بأسوأ ما يمكن أن تتهدد به، وهو الفتنة السنية – الشيعية، ونسي هذا البعض، أن هذا البلد قد بني على أسس من الديمقراطية، وكاد أن يتفرد بنعمها بين بلدان المنطقة، وأن هذا البلد قد نشا كدولة تدير شؤونها السياسية والأمنية والإقتصادية والإجتماعية بمكانة متقدمة وكفاءة مميزة تم تشويهها وتعطيلها جميعا، فباتت الدولة غريبة الشكل، عجيبة المنظر وهـي بدون رأس يدير شؤونها ويلجم شجونها، وبات جسدها وقد جرد من أطرافه جسما بلا يدين ولا رجلين، مجلسه النيابي معطل وحكومته مكبلة ومقيدة بجملة من المواقف والمواقع المتناقضة والمتناهضة، واقتصاده مغتصب ومنهوب وأمنه حائر بين جيش لكل الوطن « وجيش آخر لبعض المواطنين، ودولة مجزأة ومفتتة بين الفئات اللبنانية المختلفة، ودولة بديلة ذات أذرع داخلية ممتدة إلى كل مكان في الداخل، وبعضها طويل جدا، وممتد إلى دول الخارج المجاور وتنتهي أصابعها في دولة ذات بعد وذات أبعاد.

وننتقل إلى بعضنا الآخر، الغارق في صراعاته المحلية والذاتية، بدءاً من مصالح شخصية بحتة يتشبث فيها أحد زعمائه بحق له مزعوم ومختوم بختم الحتمية والإنفراد ( أنا أو لا أحد ) وصولا إلى حد تعطيل وطن ودولة ومؤسسات، وتهديد وجود وطن بأسره بأفدح الأخطار، خاصة في هذه الظروف العصيبة التي نجتازها اليوم في عرسال، وهي تكاد أن تتمدد إلى طرابلس وذهب البعض إلى إمكانية تمددها إلى أماكن أخرى، منها بعض المخيمات الفلسطينية فضلا عن إمكانية تمددها إلى المخيمات السورية العشوائية التي انتشر المئات بل الآلاف منها في شتى أنحاء البلاد على اختلاف أماكن وجودها وتصنيفاتها.

وننتقل إلى بعضنا الآخر الذي أفسح في المجال أمام هذا التواجد المليوني العشوائي للنازحين السوريين، دونما أي رقابة أو تنظيم أو تحفظ إداري أو أمني، الأمر الذي جعل من الوطن كله، حافلا بآلاف القنابل الموقوته والتي بدأت معالمها الخطيرة تظهر إلى الوجود في بعض الأماكن وفي طليعتها عرسال، التي باتت، بأرضها ومواطنيها، الضحية الأبرز من ضحايا التفلت السلطوي في هذا المجال، حيث أصبح التواجد السوري متروكا ومخلّع الأبواب والنوافذ، تداخله ونكاد أن تطغى فيه العواصف الحادة دونما رقيب ولا حسيب.

أما وواقع الحال المخزي والمحزن هو على هذا الوضع وهذه الخطورة.

وأما وأننا قد أصبحنا في عين العاصفة وفي قلب ساعة الحقيقة، وبات وطننا ووجودنا مهددا بأسوأ أنواع الأخطار التي تصبو إلى تحقيق دولة دينية ليس فيها من روح الدين، أي نثرة وأي غبره.

وأما والذين يهددون البلاد والعباد في هذا الوطن الصغير إنما ينسفون كل أسسنا الحضارية التي نشأنا عليها وعرفنا بها وبتراثها ومعالمها الإنسانية المتقدمة، وهم يطمحون إلى تركيب دولة على شاكلتهم، متخلفة متراجعة تكفيرية دموية، لا تتكلم إلا بلغة الفرض والغصب والعنف الأعمى، وهذا نموذج يخيف جميع اللبنانيين بكافة مواقعهم وانتماءاتهم، وليس مستغربا أن يكون أوائل ضحاياه، أهلنا وإخوتنا في عرسال الذين يثبت بما نالهم من مصائب الغدر والتهجير والتقتيل والتشريد، أن هؤلاء القادمين لغزوتهم، لا دين لهم ولا عقيدة ولا تداخلهم أية ذرة من ذرات التقدير والوفاء، هم أعداء الإنسانية جمعاء ومبادئهم تخصهم وحدهم، لا شركاء لهم فيها إلا أمثالهم ومن لف لفهم.

ساعة الحقيقة باتت تفرض علينا وقفة وطنية توحيدية تطوى خلالها كل صفحات الخلافات السخيفة التي نسبح جميعا في مياهها الآسنة، وفي غمارها الفاسد، ولحسن الحظ، أنه ما زالت لدينا مؤسسة الجيش، سليمة معافاة يحثنا الواجب الوطني على مؤازرتها وتأييدها ودعم التضحيات الكبرى التي تدافع بها عن كياننا ووجودنا. نشد على أيادي أبنائنا في هذا الجيش الصامد الذي يزداد فخرنا به عندما نقارنـه بجيش آخر سقط في التجربة القتالية واضمحل من الوجود خلال ساعات، قليلة.

دون أن ننسى أن نحيي كل الإخوة الأبرار الذين نتلاقى معهم ايام الشدة العصيبة القائمة وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية التي ما انفكت تقدم لنا المبادرة تلو المبادرة والمكرمة إثر المكرمة، ولنا بما أعلنه الشيخ سعد الحريري لجهة دعم الجيش اللبناني بمليار دولار إضافي على ما قدمته لنا في السابق، خير دليل وأبرز إثبات.

إنها فعلا ساعة الحقيقة… إنه الإمتحان الأكبر والأخطر للوطن اللبناني، ولكل وطن شقيق أو صديق.