IMLebanon

إيران: تفكيك العراق الأميركي

يستحيل على أي تحليل منطقي قراءة التطورات التي حصلت في العراق بالاعتماد فقط على ظاهرية المعطيات الحاصلة والركون الى انسيابية الحدث، الذي يبدو كاريكاتيراً في العديد من أجزاء مشهديته. تلك لم تكن سوى صورة متعجلة يراد منها إشغال المتلقي بتفاصيل هي أقرب الى الخيال. كيف يمكن لقوى من بضعة آلاف وبأسلحة خفيفة وإمكانات لوجستية متخلفة تفكيك بنية جيش نظامي قوامه مئات الآلاف، وتحويله إلى مجرد سراب يتوه في الصحارى الخالية، وكل ذلك في ظرف زمني لا يتخطى عدداً من الساعات؟

ثمة تحليلات كثيرة حاولت استدراك حالة الإرباك الحاصلة في فهم الموقف بالعمل على إدماج المعطيات الميدانية المتوافرة بخلفيات سياسية واجتماعية، عبر التركيز على حالة الحنق الحاصلة لدى المكون السنّي، إضافة إلى فساد المؤسسة العسكرية ولاعقائدية الجيش، معطوفاً عليها السياسات الخاطئة لرئيس الحكومة العراقية نوري المالكي وسياساته الطائفية التي ساهمت في إضعاف المناعة العراقية بشكل عام أمام الأخطار التي تهدد جسد البلاد، ولكن هل يكفي ذلك لإخراج مثل ذلك المشهد العجيب!

التحليل الأكثر انسجاماً مع تلك الصورة لا بد أن يرى الأصابع الإيرانية بوضوح خلف تلك المشهدية، وهي تأتي في إطار العنوان الأكبر للإستراتيجية الإيرانية في المنطقة القائمة على إيجاد الفوضى وتعميمها والعمل في إطارها، بعد ثبوت قدرة إيران الهائلة على العمل في مناخ الفوضى عبر تجربتي أفغانستان والعراق، ومتابعة هذا السياق في سورية بشكل واضح وجلي، ذلك أن إيران، ومن خلال عملها وإدارتها لعناصر الفوضى في المنطقة، بعد صناعتها بتأنّ، صارت لديها القدرة على التحرك بخطوات واسعة وبثقة عالية بقدرتها على ضبط وإدارة تلك الفوضى بما يقلل من مخاطرها عليها ويضاعف فرص استثمارها لها.

عملية تظهير هذا السياق لا بد ان تتجلى في العراق، إذ لا تكفي السيطرة على الحكم العراقي الحالي، فالسيطرة الكلية على العراق مرهونة بدرجة كبيرة ببقاء المالكي وحزب «الدعوة»، في حين لا تكون كذلك مع أي تغيرات قد تحصل في تركيبة النظام السياسي العراقي، فثمة مخاطر عديدة ينطوي عليها عراق اليوم، فهو بمؤسساته وتنظيمه صناعة أميركية، وهذه الصيغة قابلة للتفجر في وجه إيران في أي لحظة، أو أقله محاولة تعديل قواعد العلاقات معها.

في هذا السياق، تدرك إيران أن مؤسسة الجيش العراقي، التي أسسها الأميركيون وعملوا سنوات طويلة على إعدادها وصوغ أنظمتها وعقيدتها القتالية، لا بد أن لها فيها مراكز قوى ووجود، وان هذه المؤسسة هي الأكثر خطراً على النفوذ الإيراني في العراق، لما تملكه من قدرة انقلابية، إضافة إلى انطواء الجيش العراقي على مختلف مكونات المجتمع، وجزء منه لا تروق له السياسات الإيرانية، وبالتالي فإن عملية تفكيكه هي نوع من درء المخاطر المحتملة، وبخاصة أن المكاسب الإيرانية مضمونة في هذه الحالة، ذلك أن العناصر المخلصة للمشروع الإيراني من الجيش العراقي ستلتحق بالتشكيلات التي بدأ قاسم سليماني بتأسيسها بفتوى شرعية من السيستاني، وبهذه الطريقة تتخلص إيران من العناصر المشكوك بولائها وانتمائها، ثم أن حروب إيران في المنطقة لم تعد تستدعي جيوشاً، وتثبت ذلك تجربتها في سورية بعد أن أسست جيشا رديفاً هو «الجيش الوطني» الذي سيتحول مستقبلاً إلى جيش بديل عن الجيش السوري.

هذه الخطوة ستكون مقدمة لإعادة صوغ المؤسسات الوطنية العراقية ودمجها كلها في إطار المشروع الإيراني، وذلك عبر تحويل وظائفها الأساسية، تشريعاً وتمويلاً وتنفيذاً، في خدمة الأهداف الإيرانية، إذ أن تمويل المشروع الإيراني في المنطقة بات يحتاج إلى وضع اليد على عناصر الاقتصاد العراقي بعد أن أوشكت إيران على الإفلاس، وتحقيق هذا الأمر يتطلب إيجاد بيئة من التهديد الوجودي للعراقيين.

في إطار هذا السياق الفوضوي تطمح إيران إلى إعادة صوغ الكيانية العراقية وتوضيح عناصرها، في إطار إستراتيجية تشمل منطقة المشرق برمتها، حيث تعمل إيران على إفراغ المناطق السنّية، التي تقع على سكة مشروعها، على طول الخط من البصرة إلى صور في جنوب لبنان، بل أن إيران التي تطور تكتيكاتها السياسية على الدوام، تطمح إلى تحقيق هذا الأمر بمساعدة دولية وأميركية، إن أمكن، عبر مساعدة الأساطيل الأميركية، وان لم تفعل هذه الأخيرة ستسمح لإيران بفعل ذلك بحجة محاربة الإرهاب، وبخطوتها تلك تعيد إيران خلط الأوراق السياسية في المنطقة كاملة، عبر إضعاف الخليج العربي، بوصفه قوة سنّية عربية داعمة للتطرف، لذا ليس مستغرباً أن يكون رد روحاني الأولي على الحدث، دعوته لمواجهة الخطر السنّي!

بهذه العملية يراد أيضاً إعادة ترسيم حدود النظام الإقليمي العربي عبر ضمان إخراج العراق نهائياً، فالعراق الذي صار أعداؤه من العرب، سواء سنّته في الغرب، أو الدول الداعمة لهم، بحسب الدعاية الإيرانية، والذي سيحميه «فيلق القدس» الإيراني، لن يعود عربياً لا بالشكل ولا بالمضمون.

بعد تثبيتها للمالكي والأسد في الحكم، من الطبيعي أن تتحرك إيران باتجاه ترسيخهما كحاكمين شرعيين. انتظرت إيران إكمال السياق السياسي لتنتقل بعد ذلك إلى أمر فرضه كواقع. هذه الخطوة تبدو ضرورية الآن في إطار الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة، إذ صار مطلوباً الوقوف على أرض صلبة لإكمال انجاز المشروع الإيراني صوب سورية ولبنان، والانتهاء منه في وقت زمني معلوم، ليصار إلى التفرغ لإكمال حلقاته في الخليج العربي ما دامت الظروف مؤاتية.

* كاتب سوري.