IMLebanon

إيران و«امتحان» الحرب على «داعش»

في اليوم التالي لنجاح قوات الجيش العراقي وميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية مدعومة بقصف جوي أميركي بتحرير بلدة آمرلي التركمانية، كان الهم الأول لمركز القرار الإيراني التأكيد عبر تصريح مصدر عسكري رسمي أن «أميركا لم يكن لها اي دور في كسر الحصار عن آمرلي»، وأن وسائل الاعلام الغربية «حاولت مصادرة الانتصارات القيمة التي تحققت لمصلحة الجيش الاميركي وذلك بادعاء قيام الطيران الاميركي بقصف مواقع «داعش» في المنطقة». وأضافت وكالة الانباء الرسمية ارنا ناقلة التصريح انه خلال 70 يوماً من حصار البلدة لم تتخذ اميركا والغرب «اي إجراء لمواجهة الإرهابيين والتكفيريين وإيصال المساعدات إلى هذه المدينة».

ما قاله الناطق العسكري ليس سوى ايحاء غير مباشر بتبني الاتهام الذي وجَّهته الأوساط «المحافظة» في طهران للولايات المتحدة اساساً وتركيا جزئياً بالوقوف وراء تنظيم «داعش» وأعماله، ما يجعلها وفق هذا المنطق تتمنَّع عن اتخاذ اجراءات ضده وعن مساعدة ضحاياه. وهو اتهامٌ عبّرت عنه صحيفة «كيهان» في 16 حزيران (يونيو) المنصرم قائلة: «عندما فشلت الأطراف الدولية والإقليمية والكتل المحلية المفلسة في كسر إرادة الناخب العراقي لتشكيل حكومة وطنية مستقلة لجأت إلى «داعش» الإرهابي وهيأت له أرضية التحرك في الموصل للضغط على بغداد للعودة عن قرارها لكن هذه الأطراف وللأسف لم تتعظ من الدرس السوري المرير ونزلت عارية إلى الساحة العراقية التي ستلقنها درساً لن تنساه مدى الدهر». وعاد رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني وأكَّده قائلاً: «ان اميركا قامت بدعم الارهابيين في العراق وافغانستان بهدف ايجاد تيارات بديلة تحاول تشوية صورة الاسلام ولتكون لعبة بيدها».

بصرف النظر عن ضحالة تحليل الجريدة المحافظة الذي يفسِّر تكوين «داعش» وقوته كمجرَّد تخطيطٍ تآمري اميركي، فإن الناطق العسكري إذ اوحى بتبنيه وبصحته فإنه يثبت بذلك أن مركز القوة الأول في الجمهورية وهو المرشد ما زال يعتبر أن على «الثورة الإسلامية» التي يقودها ان تستمر بلعب دور المهجوس المعلن بالتآمر الافتراضي ضدها. فكأنها وهي تفاوض واشنطن منذ سنوات طويلة سراً و/أو علناً وتعقد معها التفاهم الاقليمي الجزئي تلو التفاهم وتُحضِّر لتعاون أقوى وأعمق فيما لو اعترفت لها بالدور الأول إقليمياً وتوصلَّت إلى حلٍ لملفها النووي تريد أن تواصل استخدام العداء للغرب أداة قمعٍ أولاً وتعبئة داخلية ثانياً وشرعنة لتوسعيتها ثالثاً كعناصر ضرورية لتأبيدٍ نظامٍ تيوقراطي شبه شمولي.

وبالمعنى المذكور فإن نفي الناطق العسكري لمساعدة واشنطن بتحرير آمرلي هو شكلٌ من أشكال الاحتجاج المتعددة المستويات على شروط اوباما لخوض الحرب التي تحتاجها طهران ضد «داعش» تأكيداً، ولكن ايضاً ضد القوى التي تهدد مواقع نفوذها المكتسبة في العراق وسورية ولبنان. إذ إن تكرار أوباما المستجد بعد احتلال الموصل وهزيمة الجيش العراقي لمفهوم «التحالف مع السُنَّة» و «دول الاعتدال» يقلق طهران لما يضمره من إلحاحٍ على إعادة تركيب سلطات البلدان الثلاثة بما لا يلائم التفرد والهيمنة الإيرانيين ولا أدوات عملهما السياسية والعسكرية والإيديولوجية وينعكس استطراداً في إعادة تركيب توازن القوى داخل النظام «الإسلامي» نفسه وربما يزعزعه على المدى المتوسط.

والحال انه لا بد من الأخذ في الاعتبار ان الصراعات بين مراكز القوى واعضاء «النومونكالاتورا» الخمينية التي قد تبدو محدودة حول السياسة الخارجية هي اوضح حول المواقع والسياسات الداخلية. فقد تزامنت تصريحات المحافظين مع هزيمتين جزئيتيْن «للاصلاحيين»: الأولى بسحب الثقة بوزير التربية الذي اعتبرته الأكثرية المحافظة في مجلس الشورى متطرفاً في إصلاحيته، والثانية باستعادة المحافظين السيطرة على رئاسة مجلس العاصمة التي يتولى أمانتها العامة محمد باقر قاليباف المتحدر «مهنياً» وسياسياً من الحرس الثوري والمرشح المنافس لروحاني، في حين كان الأخير يضطر للرد على المدَّعي العام الإيراني الذي اعتبر أن الغرب يسعى عن طريق مواقع معادية على شبكة الإنترنت إلى تضليل الشباب الإيراني، وعلى آيــة الله شيرازي الذي اعتبر الانترنت الجوال «غيـــر اخلاقي ولا قانوني»، مناشداً رجال الدين «أن يكونوا أكثر تــــســـاهــلاً ازاء استـــخدام الانــتــرنت والتكنولوجيا الحديثة».

وهذا فيما كان الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني يبدي تعاطفه «مع الذين اختبروا ظروف السجن قبل وبعد الثورة»، ويدعو ذويهم الى الصبر والتحمل ويعدهم بإيصال شكواهم «إلى الجهات المعنية» في تعبيرٍ عن ضعف تأثيره، على رغم أنه رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام. ما يدل على التفارق بين الموقع الرسمي والوزن الفعلي في تراتبية النفوذ داخل النظام.

وليس من دون دلالة في المنحى ذاته توالي اعلانات القادة العسكريين الايرانيين عن انجازات في الصناعات الحربية كمثل اعلان قائد «مقر خاتم الأنبياء» للدفاع الجوي العميد فرزاد اسماعيلي عن منظوماتٍ رادارية شاملة وتوقعه «انجازات جديدة للدفاع الجوي خلال العرض العسكري السنوي بمناسبة اسبوع الدفاع المقدس في 22 أيلول (سبتمبر) الجاري»، وقول قائد القوات البحرية الادميرال سياري انها «اظهرت قدراتها في التواجد بالمياه الحرة والدولية»، وأنها «استعرضت قوة النظام الاسلامي بتواجدها في مختلف البحار». وهي اعلانات توّجها تصريح اللواء يحيى رحيم صفوي القائد السابق للحرس الثوري وكبير المستشارين العسكريين للمرشد بأن «الجمهورية الاسلامية استطاعت ان تكون اللاعب الرئيسي في منطقة غرب آسيا وان الاميركيين ليس امامهم الا تقديم التنازلات لإيران المقتدرة».

بَيْد أن استعراضات القوة وغلظة الألفاظ لا تحجب حقيقة أن طهران لا تستطيع منفردة خوض الحرب على داعش وأن التحالف الأميركي-الأطلسي المضطر لخوض هذه الحرب «الطويلة» بحدود مصالحه المتمايزة لا يحتاج إلى دعمها العسكري بقدر ما يحتاج إلى تنازلها هي وأدواتها وحلفائها عن سياسة «كل شيء أو الخراب»، حتى يمكن تخريج «حلول وسط» لإشراك «أقلية سنية ساخطة في العراق وغالبية في سورية» و «إيجاد شركاء على الأرض» وفق اوباما.

إيران الخمينية أضعف من أن تفرض شروطها، لكن الإشكال أنها وفق مؤشرات محافظيها ليست بالضرورة عاقلة بما يكفي لجعلها تعزف عن محاولة العكس، بخاصة وسط التوتر الغربي الروسي. فكأنه امتحان يضعها على مفترق الطرق.

* كاتب لبناني