ليس سراً ذلك الذي كشفه الفريق يحيى رحيم صفوي، القائد السابق لـ«الحرس الثوري» والمستشار العسكري للمرشد علي خامنئي. حدود إيران الغربية لا تقف عند شلمجة (غرب الأهواز)، بل تصل إلى جنوب لبنان. وهذه المرة الثالثة التي يبلغ نفوذها سواحل البحر الأبيض المتوسط. كما قال في إشارة إلى حدود الامبراطوريتين الأخمينية والساسانية اللتين تجاوزتا بلاد الشام إلى مصر الفرعونية، ليس سرا، لانها تأتي في اطار سياق خطاب سياسي تتحدث به جمهورية ايران الإسلامية حينما اعتبرت ان سوريا هي المحافظة الخامسة والثلاثون، وكان أحد قادتها اعترف جهراً أن بشار الأسد يقاتل نيابة عنها.
بشفافية، كبيرة الى حد التقزز، ترسم إيران خريطة مشروعها الشرق أوسطي، بحدود من دم، إنه الزمن المؤاتي، فثمة فرصة تنطوي عليها اللحظة الدولية الراهنة، وحالة الضعف العربية، لا تحتمل معها التورية عن الاهداف الحقيقية، كما لا تحتمل أي شكل من أشكال التسكع خلف دبلوماسيات المجاملة، إنه أوان تحقيق الاحلام الدفينة وأوان تظهيرها على حقيقتها، من دون أي محسنات، بل وبقوة الحديد والنار، لا وقت لدى الجمهورية الإسلامية تضيعه، فيما الأجندة زاخمة بالأهداف، بعضها ذو طابع استراتيجي مستقبلي، وبعضها الآخر عبارة عن حسابات تاريخية لا بد من تصفيتها قبل الإنطلاق الى الأهداف الجديدة.
من البصرة في العراق ووسط وغرب سوريا الى جنوب لبنان، يعمل المشرط الإيراني على تحديد خطوط وطرق مشروع إيران للقرن الحادي والعشرين، في تلك التخوم يجري تحديد المجال الحيوي الإيراني، فائض من الأرض والبشر يرغب حكام طهران بالتلطي خلفهم لتقديم مشروع إعتمادهم كدولة إقليمية تمتلك دورا تقريريا في عالم القرن الحادي والعشرين، صحيح أن إيران تتكلف جهودا واموالا طائلة، وصحيح أنها تسير في علاقاتها الإقليمية والدولية على خيط دقيق من التوتر والمخاطرة، لكن منذ متى لم تكن مشاريع الدول الإستراتيجية وأحلامها الإمبراطورية تستأهل العناء والتكاليف والمخاطرة؟
وبحرفية عالية، تطبق إيران مندرجات مشروعها على الأرض، تستثمر في هواجس البعض ومخاوفهم، تساند الأطراف المتورطة والتي لا منافذ للنجاة لها سوى القتال حتى الموت، تلعب على التناقضات المذهبية في المنطقة وتسعى الى تضخيمها بحيث تبدو هي الواقع الحقيقي للعلاقات بين مكونات المنطقة وهي الأصل، وليس التعايش واللحمة الوطنية، وقد صنعت في سبيل تمرير مشروعها ذلك بيئة متكاملة ومناخا يصلح لتنمية ورعاية حالة الإنقسام بين المكونات المتعددة في المشرق، علما أن مشروعها يرث مشروعا ديكتاتوريا ظالما، لذا فهي لم تجد عناءً كبيراً في طرح مشروعها، مثلما لم تجد ادواتها في المنطقة مشكلة في إستبطان عناصر ذلك المشروع وتحولها الى رافعة له وحماة مداميكه.
جغرافية المشروع الإيراني تتمظهر بشكل بارز للعيان في الحيز السوري، الذي يكاد يشكل جسرا رابطا لكامل مشروعها المشرقي، وتشي خطوط القتال التي تتموضع فيها الكتائب التي تنفذ ذلك المشروع، بما فيها كتائب الأسد نفسه، بحدود ذلك المشروع والمدى الذي يصل اليه، حيث يقسم سوريا الى قسمين شرقي وغربي، وإذ تتركز فعالية المشروع في غرب سوريا، وهو هنا يشمل مساحة واسعة تمتد من دمشق جنوبا فالقلمون وحمص في الوسط وحوض العاصي وسهل الغاب والساحل السوري غربا، ويسعى الى الإمتداد قليلا باتجاه مدينتي حماه وإدلب، مقابل سوريا الشرقية التي يتركها النظام لباقي السوريين، بكل مكوناتهم وتياراتهم وتنظيماتهم السياسية، أرض صراع مفتوحة على الفوضى الدائمة لا تصلح سوى كونها امتدادات حيوية لحماية المراكز الحضرية..
تشكل حمص واسطة عقد هذا المشروع، إذ انها تتحكم بطرق مواصلاته الداخلية والخارجية، فهي بالإضافة لكونها تقع وسط هذا المشروع، فهي تشكل رابطا لا غنى عنه بين الجنوب والغرب والشمال السوري، كما انها تشكل موزعا أساسيا بين لبنان والعراق، حيث بقية جغرافية المشروع الإيراني، لذا فقد جرى باكرأ أكبر عملية تطهير ديمغرافي للمدينة والخط الرابط مع السلسلة الشرقية لجبال لبنان حيث هناك البيئة الحاضنة لحزب الله، احد ادوات تنفيذ المشروع الإيراني، وكانت مدن القصير وتلكلخ وقلعة الحصن، المراكز الرئيسية على أطراف خط سير المشروع الإيراني، قد تلقت أعنف الضربات وأكثرها بشاعة، وهو الأمر الذي جرى تطبيقه في بعض مناطق الساحل مثل بانياس وجبلة والحفة، وكذا المناطق التابعة لريف حمص الشرقي والتي تمثل من الناحية الجغرافية مناطق تماس مع خطوط المشروع الإيراني، حيث يجري الإعداد لقضمها وإفراغها من سكانها.
وتشكل دمشق العاصمة الأيديولوجية لهذا المشروع، لما تحمله من رمزية دينية وتاريخية، وهي بهذا المعنى تحمل قيمة شرعية كبيرة تستحق الأثمان التي تتكلفها ايران وأدواتها في المنطقة، فهي السر المقدس الذي دفع الاف المقاتلين من العراق ولبنان الى القبول بالتضحية بحياتهم، ورضاء بيئتهم بمصائرهم وتقديمهم قرابين على مذبح أحلام ايران، فبدون حماية زينب من السبي مرة جديدة، وبدون حماية مراقد ال البيت الكثيرة في الشام يتعرى المشروع الإيراني أمام البيئات التي ترفده، وينكشف كقوة عارية بأحلام إستعمارية.
إيران ترسم مشروعها المشرقي متكئة على ما ينطوي عليه النظام الدولي من لحظة فوضوية حادة، ليس مهما كم من الدماء ستراق على أطراف ذلك المشروع، ما دامت لديها القدرة والأدوات لتنفيذ ذلك المشروع، هكذا يعتقد صناع القرار في طهران، اما مسألة نجاحهم فتلك تقررها عناصر كثيرة من ضمنها إرادة السوريين أنفسهم، إذ يبدو حتى اللحظة أنهم كبدوا إيران خسائر وصلت إلى حد إستنزافها وإستنفاد جهدها، ولا شك أنهم في طور إستيعاب الصدمة وإعادة بلورة قدرتهم على مقاومة المشروع الإيراني، التاريخ يخبرنا أن إندفاعات الدول الخاطئة وراء أحلامها الإمبراطورية شكلت ذروة جنون القوة عند تلك القوى وبداية نهايتها وإندحارها، فيما الشعوب إستمرت تطور مشاريعها في الحياة الآدمية الكريمة. الواقع يقول ان ايران تستنزف قدراتها في سبيل انشاء خط حدود وهمي وآني، فيما كان الأولى باستراتيجياتها ان تتوجه لتدعيم خطوط حدودها في فارس.