IMLebanon

إيلي كيروز: عقل ستريدا أم ظلّها؟

بعدما جذبته عناوين اليسار الانسانية فكان من منظّريه، حطّ النائب إيلي كيروز في القوات اللبنانية متدرجاً الى أقصى اليمين. «زهده» لم يفقده احترام «الرفاق» القدامى الذين لا يزال بعضهم يأمل أن «يرجع يوماً». يعيب عليه خصومه ملازمته لـ«الست» حتى بات ظلّها، فيما يؤكد مطلعون أنه في الواقع «العقل المدبّر» لستريدا جعجع، وحاميها يوم تفرّق عنها كثيرون

يحمل النائب إيلي كيروز حقيبة يد زميلته ستريدا طوق، فتصطاده كاميرا «تلفزيون الجديد» في «لقطة اليوم». ببساطة، أرادت جعجع دخول حمام المجلس النيابي، فتركت الحقيبة في حوزته. صورة «حامل الشنطة»، بمعناها السيّئ، استغلها البعض لتكريس فكرة أن «إيلي هو ظل ستريدا»، خصوصاً أنهما قلّما يشاهدان إلا معاً. قربه الشديد من سيدة معراب لا يعني أنه «زلمة الست»، بل «هو عقلها المدبر»، استناداً الى أحد الإعلاميين البشراويين. أما هو فيؤكّد «أنني لن أكون إلا ظلاً لاقتناعاتي المبدئية والسياسية». ثائر على الأحزاب والعائلات التقليدية. يساري سابق، ومنتمٍ حالي الى جناح «الفكر المسيحي المتطرف» في القوات. بحسب أحد «الرفاق» القدامى، «كان إيلي يؤمن بأن المسيحية هي نظام شامل لأنشطة الحياة، على العكس من سمير جعجع». هادئ، قليل الكلام، وصوته خافت.

شعره في الاغلب غير مصفف، وغالباً ما يرخي لحيته البيضاء. قد تكون نقطة التقائه الوحيدة مع حزب الله امتناعه عن ارتداء ربطات العنق وتفضيله المظهر الـ«سبور شيك». ولادته في «الحي التحتاني» من بشري، في جوار «وادي النساك» قنوبين، أثّرت في تصرفاته ومظهره. أعضاء «الشلة» اليسارية في بشري، التي كان «منظّرها»، لا يزالون يذكرونه جيداً.

جمعهم «حب الأدب وأستاذنا أنطوان طوق». شتّتتهم سنوات الدراسة والغربة. في رأي أحد هؤلاء، «إيلي حساس. ليس انتهازياً ولا فاسداً». عيبه الوحيد أنه «لم يعد يسارياً. ولكن الأمل لا يزال قائماً بأن يعود الى هذا الخط بما أن السلطة لم تستهلكه رغم انتمائه الى حزب فاشي»، إذ إن «حسّه اليساري لم يختف، وإن كان وعيه المسيحي غالباً». أحبّ أدب بودلير ورامبو (اللذين ينتميان الى عصر الحداثة الشعرية)، وقرأ شعر محمود درويش ونزار قباني. تفوق في دراسته، «أتقن اللغات الأجنبية، بيد أنه كان عاشقاً للغة العربية». أيام الصبا «كنا معاً نسخر من حزب الكتائب كقوة طائفية»، خاصة أن إيلي كان «ملحداً، وضد الاقطاع السياسي». قسم من الرفاق فقد التواصل معه بعد أن تقرّب من القوات، بيد أن من تابعه يقول إن «إيلي كان دينامو الحركة القواتية، خاصة في ظل الوجود السوري وتضييقه على الناس». اهتم بتنظيم الأمور، «فكان أقرب الى مسؤول العمل السري».

رئيس البلدية الحالي أنطوان طوق (أستاذ اللغة العربية في ثانوية بشري) ساهم في بلورة شخصية كيروز اليسارية. يقول: «أنا كنت أوجّه قراءات الشباب». صفات الأستاذ عن تلميذه كثيرة: «مبدئي، أخلاقي، ديمقراطي، يحترم الخصم، لا يناور، بارد لا تتحكم عواطفه في قراراته، يقرأ ولا يرتجل». ارتاح طوق حين انتخب كيروز نائباً، «قلت له منيح اللي عملت نائب. صار عندك معاش تعلّم ولادك». فهو لم يتمكن يوماً من ممارسة المحاماة التي تخصص فيها، «إذ كان دائماً مطلوباً أمام القضاء».

تأثرت بشري بالمدّ اليساري العالمي في ستينيات القرن الماضي، «الأمر الذي ترك بصماته في جيلنا وجيل إيلي». بعد ذلك، ظهر جعجع الذي سمّى حركته «ثوار الشمال». أخذ يبحث عن كوادر فكرية، «واعتبر أن اليساريين هم المثقفون». لذلك، حين نجح في جذب كيروز الى صفوفه «ظن أنه ربح اليسار في بشري».

أول معركتين سياسيتين خاضهما كيروز في كنف القوات كانتا انتخابات لجنة جبران خليل جبران عام 1997، «حين تمكنت القوات من مواجهة زعماء العائلات». والثانية الانتخابات البلدية عام 1998، عندما «كسبت القوات 18 مقعداً، وكان إيلي أحد المهندسين الأساسيين للمعركة». هاتان المحطتان كسرتا شوكة العائلات، «فلم تتمكن من الاعتراض كثيراً على ترشيحه الى النيابة». أما أمنياً، فقد ألقي القبض عليه مرتين. عام 1996، حصل إطلاق نار في طبرجا (كسروان)، وكان هو يسكن في البوار، دهمته استخبارات الجيش وسجنته أسبوعاً في وزارة الدفاع. وفي 7 آب 2001 بعد أن خرجت تظاهرات معادية للوجود السوري.

في بشري «ديو» لا يفترق: إيلي وستريدا. اسماهما معاً في كل اللوحات التذكارية للمشاريع التي سعيا الى تنفيذها. يقول أحد القواتيين السابقين إن «إيلي تحول من مشكلة في الحزب الى حاجة بعد دخول جعجع الى السجن». فهو سابقاً كان على خلاف مع «القائد »، خاصة في ملفات العلاقة مع سوريا، والحرب ضد العماد ميشال عون واتفاق الطائف. لا ينكر النائب البشراوي ذلك، «كان رأينا أن الطائف سيضعف المسيحيين، ولكن هذا الخلاف بقي داخل القوات». كذلك فإنه كان على تباين مع «السيدة» بسبب الاختلاف على الأولويات: «هي كانت قضيتها زوجها حتى ولو اتفقت مع السوري من أجل تحريره، إضافة الى استخدامها لكلمة البيت السياسي، في حين أننا كنا حالة ثورية. النظام السياسي يحوّل الحالات الثورية الى بيوتات تقليدية».

بعد دخول جعجع السجن تحول كيروز من مشكلة في الحزب الى حاجة

صديق لكيروز يصف العلاقة مع ستريدا بالعميقة، «لم يتركها منذ عام 1994»

صديق لكيروز يصف العلاقة مع ستريدا بالعميقة، «لم يتركها منذ عام 1994. الكيمياء تجمعهما، كما أنها تثق به». لا بل أكثر من ذلك، «بإمكان إيلي أن يقنعها بما يريد». حين كان جعجع في السجن، «حماها، وأفشل كل المحاولات الانقلابية ضدها عبر التصدي للقيادات البديلة منها». يزيد صديقه جان كيروز على ذلك أن «إيلي دلّ ستريدا على الطريق الصحيح داخل القوات». صحيح أنه «يعتبر من جناح ستريدا بامتياز»، إلا أنه تمكن من «خلق حالة خاصة بين القواتيين». نقطة ضعفه، كما يقول جان عنه، أنه «لم ينغمس في هموم الناس ومشاكلهم، أما قوته فتكمن في كونه مناضلاً».

يؤكّد قواتيون أن كيروز هو المسؤول العملي على الارض القواتية في بشري. ويوضح جو فخري أن كيروز «يعقد اجتماعاً قواتياً كل 15 يوماً، يسمع آراءنا ويضعنا في صورة التطورات السياسية».

مكتبه في المعاملتين في بناية قديمة كانت مركزاً للضمان الاجتماعي. يداوم في المكتب مع مساعدته جيسي ومرافقه. يضيع محاوره في محاولة استكشاف ردود فعله، إذ إنه لا يُظهر أي تفاعل مع الحديث ولا ترتسم تعابير على وجهه. ينتقي كلماته بعناية، ويحاول تجنّب الأسئلة المفاجئة، وربما لهذا طلب الاطلاع على أسئلتنا مسبقاً، وعمل على صوغ الأجوبة طيلة يومين. «الراهب» باللباس المدني يتحدث عن بداياته اليسارية، والمسبحة على الطاولة أمامه، «كانت رداً على الأحزاب الناشطة في البيئة المسيحية والتي كانت ذات نزعة محافظة». يتذكر «الشلة التي ساهمت في خلق ديناميكية فكرية واجتماعية»، من دون أن يغفل دور الأب فيليب شبيعة. علاقته بجعجع بدأت «من خلال النقاش الفكري»، فأعجب بتمايزه عن الأحزاب التقليدية. البداية كانت في القطارة، عام 1982، ليترأس بعدها معهد الإعداد الفكري والسياسي في بلونة، من عام 1987 حتى التسعينيات. علاقته بستريدا بدأت بعد حل القوات. في المرحلة الاولى لم تكن العلاقة جيدة، «فقد كان همها زوجها، ونحن همنا القضية الكبرى. إلا أننا تمكنّا من إقناعها بأن جعجع جزء من القضية الكبرى». لا يحب وصفه بـ«عقلها المدبر»، مشدداً على «أننا نشكل فريق عمل». لا يعتبر نفسه بعيداً عن مشاكل «الرفاق»، فمكتبه يستقبل «حوالى ستين حالة شهرياً». ولكنه لا ينفي أنه يطمح إلى تغيير صورة النائب التقليدي «من خلال التركيز على العمل التشريعي». يفضّل أن يتحدث عن الـ15 سؤالاً التي طرحها على الحكومة، إضافة الى اقتراحات قوانين « قدمناها تتعلق بحقوق المرأة وإلغاء المحاكمة العسكرية».

حتى الساعة، لن يكون إيلي كيروز مرشح القوات للمرة الثالثة في بشري، سيعود «الى نضاله الفكري والسياسي». هو مرتاح لأن القوات التي «بقيت لفترة طويلة من دون أن تنجز شيئاً في بشري، ألغت المتاريس بين العائلات والفارق بين البلدة الكبيرة والصغيرة». هل يعني ذلك أن ستريدا بدأت تبعد زميلها عنها؟ يجيب: «غير صحيح إطلاقاً».

«الحكيم» هو النائب

أن ترتفع بشري قرابة 1400 متر عن سطح البحر، لا يعني بالضرورة أن تكون فارغة من أبنائها في بحر الأسبوع. هناك حياة من نوع آخر بعيدة عن ضوضاء العاصمة. صلابة الطباع واللكنة تكسرها ابتسامات مرحبة، فرحة بوجود من أتى يستطلع أحوالها، ويسمع رأيها. تغيب صور كيروز، «فبالمعنى المجازي جعجع هو النائب»، كما يقول أحد البشراويين.

مآخذ أهل منطقته عليه أنه ليس نائباً تقليدياً، بمعنى أنه «بعيد عن حضور المناسبات الاجتماعية وبابه ليس مفتوحاً أمام الخدمات الشخصية». لا أحد يعلم متى يأتي ويرحل، ويلومونه أيضاً لأنه «متشدد في تطبيق القانون». فهو قد رفع الغطاء منذ انتخابه «عن أي جناية تحصل في بشري». ولكن، نموذج الرجل «المناضل المثالي» سقط في عام 2010 يوم أوقفت القوى الأمنية مرافقه وهو يقلّ في سيارته تاجراً للمخدرات. ثارت أعصابه وانتفض دفاعاً عن كرامته، خصوصاً أنه لم يكن على دراية بالجاني.

ربما تكون القصة قد انتهت عند كثيرين، ولكن «غوغل» ما زال يحفظها جيداً، مذكّراً بها كل من أراد البحث عن إيلي كيروز.