تدور في لبنان هذي الايام حرب أهلية مستترة، تقتصر على السياسة حتى الآن، بطلاها «حزب الله» والبطريرك الماروني بشارة الراعي الذي يخوض أيضاً مواجهة داخل طائفته ذاتها لتكريس نفسه ايضاً زعيماً سياسياً لها، بعدما اعيته الحيلة في توحيد صفوفها.
وجاءت زيارة وزير الخارجية الاميركي جون كيري الى البطريرك قبل ايام لتدفع في اتجاه ازالة الحدود بين التمثيلين الروحي والسياسي لمسيحيي لبنان، بل حتى تقديم الاول على الثاني، بعدما خلا منصب رئاسة الجمهورية نتيجة تعطيل «حزب الله» وحليفه الماروني ميشال عون جلسات الانتخاب البرلمانية، بانتظار ان يوافق الاطراف الآخرون على اختيار الجنرال المتقاعد رئيساً او أي مرشح آخر يقترحانه.
والواقع ان سعي الراعي الى اعادة توحيد الموارنة جزء من تكليفه البابوي بالدفاع عن مسيحيي الشرق ومصالحهم في أوطانهم، اذ لا يمكنه توحيد هؤلاء وراء الكنيسة فيما طائفته نفسها منقسمة. وفي الاطار نفسه تندرج زيارته الى اسرائيل ولقاء مسيحيي الجليل والمسيحيين اللبنانيين الذين لجأوا اليها بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان.
ومن المتوقع ان يبدأ الراعي اليوم مرحلة جديدة من التصعيد ضد القرار المتعمد باحداث فراغ في منصب الرئاسة والاستمرار في ما يراه استبعاداً للمكون المسيحي في ترويكا الحكم، حتى لو ادى ذلك الى مواجهة مع تيار عون، الأمر الذي تجنبه البطريرك حتى الآن.
وينطلق الزعيم الجديد للموارنة في معركته من مبدأين أساسيين، الأول انه لم يعد مقبولا بعد الآن تهميش مسيحيي لبنان الذين يعانون منذ عقود من هيمنة على قرارهم السياسي، بدأت مع الدخول الفلسطيني الى لبنان في 1970 ثم السوري في 1976 واشتدت مع الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان ثم لعاصمته، بحيث باتوا يُستخدمون ورقة في النزاع الاقليمي الذي دخلت ايران عاملاً رئيسياً فيه منذ قرار تجييش الطائفة الشيعية في 1983 وانشاء «حزب الله».
وهذا يعني ربط الشراكة باستقلالية القرار المسيحي المحلي والاقليمي، عبر رفض الخضوع الدائم لامتحان «الوطنية» الذي حاول «حزب الله» فرضه ايضا على السنة بقوة السلاح، بهدف مصادرة قرارهم.
والمبدأ الثاني هو فرض تعامل الاطراف الاخرى مع المسيحيين على انهم كتلة دينية اولاً وسياسية ثانياً، ومن هنا تكتسي زيارة البطريرك الى اسرائيل اهمية اضافية لانها شكلت خروجا على معايير فرضتها الوصايتان السورية والايرانية اقليميا، وتحدياً لـ «خطوط حمر» وضعها الحزب داخليا لابتزاز القوى السياسية المناوئة له وفرض مفاهيم «المقاومة» عليها.
فاذا كان على المسيحيين القبول بأن الطوائف الاخرى، وخصوصاً الشيعة، ترتبط عضوياً بمرجعيات خارجية دينية وسياسية تحدد لها سياساتها وتمدها بالمال والسلاح والنفوذ، فإن من حقهم هم ايضا العودة الى مرجعيتهم الكنسية في روما لاستعادة دورهم في لبنان والمشرق، بدلا من التفتيش عن سند اقليمي وهمي مثلما حصل اكثر من مرة خلال الحرب اللبنانية.
وبكلام اوضح، تعتبر البطريركية ان تركيز القرار المسيحي بيد القيادات السياسية ولد اخفاقات ومآس وهزائم على مدى اكثر من خمسة عقود، وان المخرج الوحيد من هذا الواقع الذي يزداد تدهوراً مع الوقت بسبب استمرار النزف البشري الذي تشكله الهجرة، يكمن في امساك مرجعيتهم الكنسية بالقرار لما تتمتع به من غطاء ديني – سياسي دولي لا يمكن تجاوزه.
لكن هذه المواجهة مع «حزب الله»، ومن خلفه ايران وسورية، لن تكون سهلة على الاطلاق، بل قد تشهد تصعيداً من جانب هؤلاء المتضررين، ربما لا يقتصر على الحملات السياسية المحمومة التي تشن على البطريرك، خصوصا اذا قرر ان نجاحه في تنفيذ تكليفه البابوي يتطلب اللجوء الى «الشارع» المسيحي.