لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثامن والأربعين على التوالي.
ماذا لو كان لبنان أيضاً بلا حكومة ومجلس نيابي؟
يصبح السؤال مشروعاً عندما يكتشف اللبنانيون أنه منذ العام 2004 حتى الآن، مرّ عليهم عهدان، ومن بعدهما «شغوران»، أحدهما ما يزال مستمراً، وتعاقبت عليهم ثلاثة مجالس نيابية وسبع حكومات، ولم يولد مجلس الجامعة اللبنانية، بل صودر ما تبقى من صلاحيات رئاستها ومجالسها ووحداتها وإدارتها، لمصلحة منطق التحاصص الطائفي والمذهبي والميليشيوي، ولو كان مغلفاً بشعارات اقتصادية برّاقة، تتماهى مع منطق السوق.
هنا ارتكبت «أم الجرائم» في الجامعة اللبنانية، في الوقت الذي لم تقصر أية حكومة منذ العام 1992 حتى الآن، في منح التراخيص لجامعات خاصة أُنبتت كالفطر ولامست عتبة الخمسين جامعة، وبينها بضع دكاكين أو «امتيازات جامعية» غب البيع والطلب.
ليس «التآمر» على جامعة لبنان جديداً. الأصح أن عمره من عمر الحرب الأهلية التي أصابت نيرانها الجامعة، عندما تشظت المؤسسة الجامعة والمنافسة لكل مؤسسات التعليم العالي الخاص، وتوزعت فروعاً هنا وهناك، تبعاً لخريطة الانقسام السياسي والطائفي والمذهبي، حتى وصلنا الى عتبة الستين فرعاً.. والحبل على الجرار.
ليس «التآمر» على الجامعة الوطنية جديداً، لكن وبدلاً من أن يكون زمن السلم الأهلي وإعادة الإعمار، مناسبة لإعادة الاعتبار الى الجامعة ودورها الوطني التوحيدي، تمت معاقبتها، ربطاً بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية «الحديثة» بعناوين «النيوليبرالية»، فكان التقشف على حساب موازنتها، ومصادرة هيئاتها الطلابية ومن ثم مصادرة رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة، فكان المشهد ذاته والتحالف نفسه، حيثما يستطيع في الاتحاد العمالي ونقابات المهن الحرّة وصولاً الى تطييف الأدوات النقابية المنتخبة التي لطالما شكلت رافعة تاريخية للجامعة اللبنانية منذ نشأتها وحتى في عز الحرب الأهلية.
مصادرة الصلاحيات
ولا يمكن عزل ملفي تعيين العمداء والتفرغ بكل تداعياتهما السياسية والتحاصصية، عن مصادرة صلاحيات مجلس الجامعة عبر المرسوم الشهير الرقم 42 في العام 1997. هذا المرسوم شكل كارثة وطنية بكل معنى الكلمة بمخالفته حتى توجه اتفاق الطائف القائم على «إصلاح أوضاع الجامعة اللبنانية وتقديم الدعم لها وبخاصة في كلياتها التطبيقية»، كما جاء في نص الاتفاق نفسه.
بموجب هذا المرسوم، أصبح التعاقد بالساعة مع أساتذة الجامعة رهن موافقة مجلس الوزراء فقط، وليس مجلس الجامعة أو الوحدات. بذلك، تقدّمت اعتبارات المحاصصة الطائفية على الاعتبارات الأكاديمية، وصار لزاماً على كل متخرج وباحث عن ساعات عمل ووظيفة، أن يقرع باب أمراء الطوائف وأن يستزلم لهم حتى ينال مراده، بدلاً من أن يسعى الى استيفاء المعايير الأكاديمية.
قبل ذلك، كان التعاقد أمراً أكاديمياً بحتاً. لم تكن قاعدة المناصفة قائمة، ولا يمكن أن تنطبق على الجامعة اللبنانية، طالما أن عدد الطلاب لم يكن محكوماً بالمناصفة في يوم من الأيام، فكيف يصبح التعاقد أو التفرغ محكوماً بقاعدة غريبة عجيبة، الأمر الذي يؤدي تلقائياً الى تغليب الاعتبار الطائفي والسياسي على الاعتبار الأكاديمي!
تدريجياً كبر جيش المتعاقدين، وصار للتعاقد ممره الإلزامي (الطائفي). انقلبت الآية في الجامعة. كان ثلثا الأساتذة من المتفرغين وأحياناً أكثر، مقابل ثلث أو أقل من المتعاقدين. صار الثلثان من المتعاقدين والثلث من المتفرغين.
واذا كان وجود مجلس الجامعة، قد ساعد في الحد من بعض التدخلات، فإن تعمّد كل العهود والحكومات منذ العام 2004 حتى الآن، عدم تعيين عمداء الكليات، وبالتالي إبقاء مجلس الجامعة على الرفّ، جعل مجلس الوزراء هو الحاكم بأمر الجامعة، وصولاً الى الفضيحة التي نشهد فصولها في هذه الأيام والمتمثل في مناقشة قضية تفرغ 1100 استاذ متعاقد.
مَن يلتزم بالقانون؟
وثمة أسئلة بديهية يجب أن يوجهها من يستحق التفرغ أكاديمياً من أساتذة الجامعة وهم بالمئات: من أنتم أيّها الوزراء حتى تبتوا بملفاتنا؟ أين تعلّمتم؟ ما هي شهاداتكم؟ ما هي الجامعات التي تملكون تراخيصها أنتم أو سادتكم في السياسة والطوائف وهل تقدمون مصلحتها هي أم مصلحة الجامعة الوطنية؟ وهل تتساهلون في تنفيذ القانون الذي ألزم الجامعات الخاصة بأن تكون نسبة 60% من أساتذتها في الملاك.. والباقي من المتعاقدين في الساعة؟ وكيف تشرّعون العكس في جامعة لبنان؟ وهل فكّر أحدكم بتنسيب ابنه للجامعة اللبنانية؟
لا يمنع ذلك من طرح أسئلة على جزء من المتعاقدين الذين وضع ملفهم أمام حكومة تمام سلام: هل استكملتم دراساتكم العليا وهل عدتم الى لبنان وهل تملكون نصاباً من ساعات التدريس يؤهلكم لأن تستحقوا عقد التفرغ وهل نشرتم بحوثاً علمية وهل تعوّلون على الجامعة اللبنانية أم تعتبرونها كأي قطاع عام في البلد مجرد بقرة حلوب؟
للأسف لا أحد يسأل أو يحاسب، لا في هذا الاتجاه أو ذاك، ولعل بعض الوقائع التي تشوب بعض ملفات المطروحين للتفرغ لا تقل سوءاً عن وقائع تشوب عمل وزراء جل همهم جيوبهم أو أن يرضوا زعماءهم في هذا الاتجاه أو ذاك!
لقد كانت الملفات المعروضة على حكومة نجيب ميقاتي في نهاية العام 2012، لا تتجاوز 57 متعاقداً.. لكن سرعان ما تضاعف الرقم. لا يتعلق الأمر هنا بحاجة الجامعة، وهي تحتاج الى أكثر من 1500 أستاذ جامعي متفرغ حالياً، ولكن هل يمكن أن تنشر ملفات الـ1100 استاذ بكل معاييرها الأكاديمية أمام الرأي العام اللبناني؟
حبذا لو قام مجلس الجامعة أولاً بعمدائه المختارين وفق معايير أكاديمية وممثلي أساتذته المنتخبين، ليوضع كل ملف على طاولة التدقيق الأكاديمي بعيداً عن اعتبارات المحاصصة المذهبية وصوناً لما تبقى من أساتذة أفنوا عمرهم في سبيل الجامعة وصار أكثرهم ينتظر فرصة في الخارج، برغم كل ما نالوه من زيادات وتقديمات وبدلات في السنوات الأخيرة.
كل مؤسسات الدولة تواجه مشاكل بنيوية. هذه مسألة غير مستجدة، لكن ثمة تعاملاً مع الجامعة اللبنانية بوصفها قطاعاً غير منتج. هذا هو أصل روحية تغليب التعاقد بالساعة على التوظيف المنتج.. وصولاً الى تصفية القطاع العام.
نعم صارت معايير تخريج أجيال جديدة شبيهة بمعايير الشركات العقارية ولعبة الأسهم وخصخصة القطاعات «غير المنتجة».
الجامعة تشكو دائماً من انعدام الموازنة التي تجعلها ريادية في البحث العلمي حتى يكون لها موقع في الدرجات الأولى في سلم التصنيف العالمي. نعم، مهمة الاستاذ الجامعي ليست أن يدرّس وحسب بل أن ينتج معرفة وثقافة، وإذا افتقدت الجامعة للبحث، تتحوّل الى صف للحشو وتعميم الشهادات غير المتصلة بالحاضر والمستقبل، من علوم وتكنولوجيا وعلوم إنسانية تتطور بشكل مذهل.
المؤسف، وهذه حقيقة مرة، انه ضمن التصنيف العالمي للجامعات، لا تدرج الجامعة الوطنية ضمن أول 500 جامعة.
المطلوب للجامعة قانون جديد وهيكلية جديدة ورؤية جديدة. قانون العام 1967، كان ينسجم ووجود ست كليات ونحو سبعة آلاف طالب. تضاعف عدد الكليات ثلاث مرات (19 كلية) وعدد الطلاب 10 مرات (أكثر من سبعين الف طالب).
صار لزاماً القول للسياسيين والطائفيين والمحاصصين: ارفعوا أيديكم عن «جامعة لبنان».