IMLebanon

الأتراك والأرمن: صيغة عقلانية للاعتذار

“يدّعي” هذا المقال تقديم اقتراح صيغة محدَّدة وحرفية لاعتذار تركي من الأرمن وفق المعايير التالية التي يمكن ربما أن تكون مقبولة لدى النخب الأرمنية والتركية على السواء.

مرّت الذكرى الـ٩٩ للقضية الأرمنيّة في يوم ٢٤ نيسان المنصرم كسابقاتها لولا بعض الكلام الإنساني حول الضحايا الأرمن في تلك االمرحلة والذي أطلقه رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان المشغول بترميم صورته المتداعية أمام الرأي العام الغربي وقادته واعتبره – أي الكلام – بعضُ قادة الأًرمن “خطوة إلى الأًمام”.

سأتجاوز هذه النقطة إلى تطوّرٍ أعتبره أكثر جوهريّةً على المدى الأبعد. فالسنوات الأخيرة شهدت نضجا مهماً في وعي ومواقف النخب الثقافيّة الليبرالية التركية من أحداث الصراع الأرمني التركي وبينها قابلية نقد عميق للممارسة التركية في تلك المرحلة، أعني هنا وعي و مواقف الوسط الثقافي العلماني وبعضها وصل إلى حد تحمّل مخاطر التهديد بالتصفية من قبل الأوساط القومية التركية المتشددة ومنهم الروائي الكبير أورهان باموك. وقد أظهرت ردود الفعل الكثيرة التركية الشاجبة رداً على اغتيال الصحافي والناشط التركي من أصل أرمني هرانت دينك في اسطنبول أمام مبنى صحيفته شبه إجماع حتى في الأوساط السياسية على إدانة هذه الجريمة.

على أن التقييم الدقيق يتطلّب تسجيل أن المتشددين على الجهتين، بمن فيهم المتشدّدون الأرمن في أرمينيا والدياسبورا ومنها لبنان وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، مسؤولون عن عدم إيجاد وتعزيز أجواء تقدّم أو تسوية لهذه المسألة التاريخية الشديدة الوطأة السياسية.

بهذه المناسبة كيف يمكن لمراقب معنيٍّ بمسار السجال أن يتصوّر صيغة عقلانية لاعتذار رسمي تركي للأرمن يقبل وقائع أخطاء تلك المرحلة في الدولة العثمانية دون أن يمسّ الثوابت الوطنيّة التي اقيمت عليها الجمهوريّة التركية؟

مهمّة تبدو صعبةً جدا بل مستحيلة حتى الآن، فماذا يمنع أمام ملف بهذا التعقيد والتعبئة الحادة لحوالى قرن من الزمن أن تحضر مساهمات فكرية أو ذهنية في هذا المجال من مصادر مختلفة وليس فقط من أرمن وأتراك لأنه لا أحدَ “يعيّن” أحدا في مجال التفكير والتحليل!

“يدّعي” هذا المقال تقديم اقتراح صيغة محدّدة وحرفية لاعتذار تركي مُتَخَيَّل يقوم على المعايير التالية:

١ – فصل الاعتذار حيال قرار الترحيل العسكري العثماني للأرمن من القوقاز والأناضول وما نتج عنه من فظائع وتنكيل عن مسألة السيادة الوطنية لكل من الجمهوريّتين التركية والأرمنية على أراضيها، فصلهُ عن قرار عسكري اتخذته حكومة من نظام حكم مختلف ومنتهٍ، فلا يترتب على ذلك أية مسؤولية من أي نوع كان على مستوى خارطة الدولة وحدودها وتنحصر بالمسؤولية المعنوية.

٢ – احترام وجهة النظر القائلة بأن التوتر الخطِر بدأ بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وكان أقرب إلى حرب أهلية بين الجماعتين قبل أن يصدر القرار الوحشي من الحكومة العسكرية في اسطنبول بترحيل الأرمن من المناطق التي يسيطر عليها الجيش العثماني بحجة قطع أواصر التحالف بين الجيش الروسي والأحزاب الأرمنية في القوقاز (ولاحقا بين الجيش الفرنسي والأرمن في غرب الأناضول)

٣ – التخلّي عن الكتابة الفئوية التي تمنع إعادة تأريخ تلك المرحلة بموضوعية كاملة، وهي المرحلة التي تلتها مرحلة التهجير المتبادل لمعظم يونانيّي الأناضول ومعظم مسلمي الأراضي الواقعة تحت سيطرة الدولة اليونانية ولا سيما محيط مدينة تسالونيكا.

٤ – الترحيل الشامل للأرمن حقيقة باتت ثابتة وتستوجب الاعتذار أيا تكن الظروف السياسية والعسكرية للحرب.

وفي ما يلي الصيغة المقترحة كما نتخيلها صادرةً ذات يوم عن رجل دولة تركي شجاع ومسؤول:

“عانت الشعوب التي كانت تتألّف منها السلطنة العثمانية مأسي كثيرة هائلة جرّاء الحرب العالميّة الأولى. كما شهدت السلطنة في هذا السياق حرباً أهلية داخل أراضيها بين الأتراك والأرمن ساهمت القوى الأجنبية المتحاربة في تأجيجها.

“تعترف الجمهورية التركية وهي تستعيد بكل احترام ذكرى الضحايا الأبرياء الكثيرين من المدنيّين في تلك الحرب ولا سيما الأتراك والأرمن، تعترف بالهول الخاص لمعاناة الأرمن بعد قرار السلطة العسكرية الحاكمة في اسطنبول ترحيلَ مئات الآلاف من الأرمن من مناطق إقامتهم في القوقاز والأناضول مما أدّى إلى سقوط أعداد ضخمة من النساء والأطفال والرجال بينهم في ظروف صعبة للغاية أقل ما يُقال فيها إنها غير إنسانية.

“إن الجمهورية التركية وهي تراجع بمسؤولية عالية هذا الإرث التاريخي المؤلم تتقدم باعتذارها إلى الشعب الًأرمني وتتعهّد بالاستمرار في بذل أقصى الجهود لتوطيد أواصر العلاقات مع جمهورية أرمينيا على أساس الاحترام المتبادل لسيادة وحدود كلٍّ من الجارتين تركيا وأرمينيا وتتطلّع إلى بناء مستقبل مزدهر تسوده قِيم الحداثة والديموقراطية”.