لا تحتاج الصورة إلى كثير من التدقيق والتحليل للاستنتاج أنّ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنامين نتنياهو يتخبَّط في مأزق غزة. فلا هو قادر على التوقّف لأنّ ذلك يَعني سقوطه السياسي بسبب الرأي العام الاسرائيلي الخانق والناقم، ولا هو قادر على المخاطرة أكثر وإطلاق عملية برّية واسعة ومفتوحة لأنّ ذلك تعميق للخسارة وللوصول الى المجهول.
في وسائل الاعلام الاسرائيلية انتقادات وأسئلة كثيرة عن المكاسب الممكن تحقيقها في حال الحرب المفتوحة على غزة. وما الجدوى من الدخول الى قلب غزة ثم الخروج منها تحت وطأة العمليات ولو طال هذا الدخول أشهراً؟ أضف إلى ذلك معارضة العواصم الغربية هذا النوع من المغامرات والضرر الذي سيصيب صورة إسرائيل لدى الرأي العام العالمي مع ارتفاع مستوى المجازر التي ستحصل بحقّ المدنيّين.
وفي وسائل الاعلام الاسرائيلية أيضاً غيض من فيض حول الموقف الاميركي الفعلي الذي يهدف الى تعميق المأزق الاسرائيلي. فهناك اتهامات واضحة لوزير الخارجية الاميركية جون كيري الذي شجَّع من خلال مواقفه الملتبسة حركة «حماس» على رفض المبادرة المصرية.
في نهاية المطاف لا تبدو واشنطن قلقة من فقدان السيطرة على الوضع خصوصاً أنّ قطر الساعية إلى استعادة مواقع نفوذ لها على خريطة الشرق الاوسط، قادرة على التعاون مع «حماس» وترويضها في الاتجاه المطلوب حين يؤون الأوان.
في المقابل، هناك قناعة لدى طبقة المفكّرين الإسرائيليّين بضرورة عدم ارتكاب خطأ استراتيجي آخر على مستوى الساحة الفلسطينية. ففي السابق ساهَمت اسرائيل بطريقة او بأخرى في انتشار حركة «حماس» في الوسط الفلسطيني بهدف خلق ثنائية عبر إيجاد منافس لياسر عرفات ما سيُرغمه على خفض سقفه السياسي والقبول بتسوية سياسية لصالح اسرائيل. فكانت النتيجة أن وُلدت حركة إيديولوجيّة قوية التنظيم وتحظى بعلاقات متينة مع اطراف إقليميّة إسلامية.
أما اليوم، فهناك من يُحذِّر اسرائيل من أنّ تدمير تركيبة «حماس» سيدفع بالحركات المتطرفة لأن تكون البديل، أي تنظيمات مشابهة لـ»داعش» و»القاعدة» و»النصرة»، لا تملك سوى أسلوب الارهاب والعمليات الانتحارية في كلّ وقت وزمان، وهي غير قابلة للتفاوض والتحاور.
ذلك أنّ العواصم الغربية التي أدركت سريعاً حجم الخطأ الذي ارتكبته من خلال احتضان «الربيع العربي»، تعيش هاجس وصول الارهاب الى عمق أراضيها، بعد إشارات مقلقة ظهرت أخيراً على هذا الصعيد. فأعداد «المجاهدين» الذين تدفّقوا من البلاد الأوروبية وحتى الأميركية للقتال في سوريا وتنفيذ عمليات انتحارية أعطى إنذاراً مبكراً للبيئة المتعاطفة والتي ستصبح بيئة حاضنة داخل حدود هذه الدول.
ولم يعد خافياً على المتابعين، المعلومات الكثيرة عن التنسيق الامني المستمرّ ما بين الادارة الاميركية والحكومات الاوروبية المراقبة، التنقل السهل الممنوح لرعايا هذه البلدان، ومن خلالها لأشخاص اصبحوا عناصر «جهادية».
ولم تُفاجأ السلطات الفرنسية مثلاً باكتشاف عمليات تفجير إرهابية لأبرز معالمها السياحية. فهي كانت تعيش هذا الهاجس منذ فترة، لا بل إنّ كابوس حصول تفجير كبير يثقل كاهل أجهزتها الامنية. فالتواصل ما بين «الاسلاميين الفرنسيين» وإسلاميّي الشرق الاوسط قائم على قدم وساق وتركيب الخلايا في فرنسا ناشط وفق حرفية «القاعدة» واخواتها، بالتالي لا بدّ من حرب استباقية تحدّ من خطر هؤلاء.
لذلك مثلاً، توقّف الهجوم الديبلوماسي الفرنسي تجاه النظام السوري منذ مدة غير قصيرة ولم تعد طلّات وزير خارجيتها لوران فابيوس تستهدف الرئيس السوري بشار الأسد.
في المقابل، حاول أحد المسؤولين الامنيين الذي كان يعمل في السفارة الفرنسية في دمشق الى حين إقفالها، فتح قنوات التواصل مع السلطات السورية من خلال المسؤولين الامنيين السوريين الذين كانوا على علاقة عمل معه قبل أن يقطع هذه العلاقات بناءً لتعليمات بلاده وينتقل الى الاردن.
وكانت الرسالة التي نقلها المسؤول الفرنسي واضحة: لنُعد فتح قنوات التعاون الامني بين بلدينا كما كانت سابقاً. ذلك أنّ باريس تُدرك جيداً «كنز» المعلومات الموجود لدى السلطات السورية عن شبكات «الجهاديّين» من خلال التحقيق مع معتقلين من هؤلاء بعد اعتقالهم في ساحات المعارك.
وما شجَّع الفرنسيين على هذه الخطوة هو السعي السوري خلال العامين الأولين من اندلاع الحرب في سوريا الى التواصل مع باريس على هذا الاساس، لكنّ الباب الفرنسي كان موصداً بالكامل. وجاء الجواب السوري صادماً: قد نقبل بعودة التنسيق الامني ولكن بعد اعادة فتح السفارة الفرنسية رسمياً وبكامل اعضائها، وإلزام فرنسا دفع تعويضات بسبب مساندتها الحرب التي دمَّرت سوريا، اضافة الى مطالب اخرى بهذا الحجم.
وفهمت باريس أنّ دمشق ترفض التعاون، لكن جاء من يقول إنّه لو اختير مسؤول فرنسي كبير كان مناهضاً للسياسة الفرنسية تجاه سوريا لأصبح الجواب السوري أكثر ليونة.
وبدا أنّ الرئيس السابق للاستخبارات الفرنسية سكوارزيني وهو الذي تولى مهمّاته خلال ولاية الرئيس نيكولا ساركوزي ووضع كتاباً منذ اقل من عام تحدَّث فيه وفق معلوماته عن الربيع العربي المتداخل مع الارهاب والمموّل من السعودية وقطر، سيكون الشخص المناسب والمتوقّع زيارته إلى دمشق خلال الاسابيع المقبلة (أيلول على الارجح).
الارهاب قلَب كل النظريات في الشرق الاوسط وهو يأخذ المنطقة الى فوضى شاملة ومنها الى تحوّلات كبرى. وأوروبا والولايات المتحدة الاميركية تعيشان هاجس حماية الامن القومي بأيّ وسيلة او طريقة. وهو ما يعني أيضاً أنّ حكومة نتنياهو التي تغرق في أزمة غزة تقف أمام حسابات معقّدة قد تُهدّد المستقبل في ظل حقيقة أنّ ربع الاسرائيليين هم من الفلسطينيّين القابلين للتأثّر بصحوة المتطرّفين في المنطقة.