تفتقر العلاقات اللبنانية ـ الإيرانيّة إلى الحرارة. كانت ملتبسة ولا تزال. الخطاب المعلن مغاير للمضمَر، وتعتريه مآخذ فتحت الأبواب عريضةً أمام الشكوك والظنون، وجعلت الثقة المتبادَلة ضعيفة متأرجحة بين ما يُعتبَر حقوقاً سياديّة غير قابلة للتصرّف، وبين مَن يريد أن يتطاول على هذه الحقوق، ويتصرّف بها خدمةً لمصالح خاصة.
في هذه اللحظة البالغة الحساسيّة في العلاقات، يغادر السفير الإيراني غضنفر ركن أبادي بيروت إلى مركز وُصِف بـ«الدقيق والمهم» في وزارة الخارجيّة الإيرانيّة.
أبادي ليس كأيّ سفير، وتتزامن مغادرته مع البدء بتأليف حكومة جديدة في العراق، وقبيلَ الإنتخابات الرئاسيّة في سوريا، وبعد تفاقم أزمة الإستحقاق الرئاسي في لبنان، ومع بدء المفاوضات السعوديّة – الإيرانيّة حول مختلف الشؤون والشجون، بما فيها الملفات الإقليميّة.
عايشَ التحوّل الذي تشهده طهران، من تشدّد الرئيس أحمدي نجاد، إلى انفتاح الرئيس حسن روحاني على الغرب. يعرف كيف دخل «حزب الله» في القتال داخل سوريا، والأسباب الموجبة، ومفاعيلها المستقبليّة، ويعرف القطَبَ المخفيّة وإتجاهاتها وتوجّهاتها. عاش متنقّلاً بين الجبهات على خطوط التماس، جبهة التورّط في الداخل السوري حيث فتح أبواب السفارة في شباط 2013 لتقبّل التعازي بمقتل رئيس الهيئة الإيرانية لإعادة الإعمار في لبنان حسن شاطري، (حسام خوشنويس) على يد جماعات مسلّحة متطرّفة في سوريا. والجبهة التي فُتِحت ما بين «حزب الله» والجماعات الأصوليّة، وكاد أن يدفع حياته ثمن الهجمات التي استهدفَت مقرّ السفارة الإيرانيّة في منطقة بئر حسن، ثمّ مقرّ الممثليّة الثقافيّة الإيرانيّة. وأخيراً وليس آخراً جبهة العلاقة الملتبسة مع الدولة، والتي تفتقر إلى كثير من الصراحة والصدقيّة، على وقع المواقف الصادرة عن قيادات سابقة وحاليّة في الحرس الثوري الإيراني، تتعاطى مع لبنان وكأنّه حديقة خلفيّة للنفوذ الإيراني، وكان آخرهم يحيى رحيم صفوي الذي أكّد أنّ نفوذ بلاده وصل إلى شاطئ المتوسط في جنوب لبنان.
تجربة أبادي أهّلته لأن يكون عضواً في الفريق الإيراني الممسِك بملفّ العلاقات مع السعوديّة، ودول الخليج. كانت له في السابق تجربة ناجحة مع السفير علي عوّاض العسيري حيث تصرّفا يومها كفريق عمل لمساعدة الحكومة على مواجهة ملفّات أمنيّة وسياسيّة متداخلة. صاحبُ خِبرة في العلاقات اللبنانية – السوريّة، ومن هنا يبدأ الحوار مع السعوديّة لترسيم معالم الدور والنفوذ لكليهما في دول «الهلال الشيعي»، العراق، سوريا، ولبنان.
ومن غريب المصادفات أنّ الدول الثلاث تخضع لاستحقاقات دستوريّة، وتمرّ بمرحلة تغييريّة. في العراق بدأت المساعي لتأليف حكومة جديدة في ضوء النتائج التي أفرزَتها الإنتخابات النيابيّة الأخيرة. في سوريا، هناك إنتخابات رئاسيّة في 3 حزيران، وسط حملة غربيّة ضدّ ترشّح الرئيس بشّار الأسد. في لبنان، دخلَ الاستحقاق الرئاسي الفراغ، أو أوشكَ، فيما الأنظار تتّجه نحو «حزب الله»، كونه الممسك بأوراق كثيرة، وإن لم يكن الفريق الأقوى الذي يتحكّم بمفاصله، فهو من دون أدنى شكّ المتقدّم بين الأقوياء. قال كلمته ببساطة «نريد رئيساً يحترم المقاومة» ونقطة عالسطر. ما هي المواصفات؟ ما هي معايير الاحترام وحدوده؟ هذا لا يقرّر في حارة حريك، بل في طهران، وفي ضوء ما يجري من بحث ونقاش لترتيب المصالح الإيرانيّة في كلّ من العراق، وسوريا، ولبنان، والخليج.
وإذا كانت غالبيّة الفاعليات اللبنانية تُسلّم بأهمّية التفاهم السعودي – الإيراني لإنضاج طبخة الإستحقاق الرئاسي، فإنّ ترياق الحلّ قد يتأخّر، لأنّ هذا التفاهم يجب أن يمرّ بالحكومة العراقيّة الجديدة، وشكلِها، والتوازنات التي ستستنِد اليها، ثمّ بسوريا في ضوء الإنتخابات ومفاعيلها، والمخارج والتسويات المقترحة، وصولاً إلى لبنان، وانطلاقاً من: هل تقبل السعودية بوصول النفوذ الإيراني إلى مياه المتوسط انطلاقاً من الجنوب؟