أعرف أنني سأخيّب فأل الذين يتوقعون مني أن أتطرق كل أسبوع الى شبح الإستحقاق الرئاسي، هذا الذي يتابعونه بقلق وشغف وأسف.
والحقيقة أنني مللت الكلام على حكاية إبريق الزيت الماروني حتى كاد يصيبني مرض الإكتئاب، فيما راحت تضغط على خاطري فصول ملحمة حمراء متنقلة بين العواصم العربية، وما بين العراق والشام، وقد جاءنا رسولها «الكريم» من الصحراء حاملاً «الترياق» من العراق على ظهر الجمل وحطّ رحْلَهُ في ضهر البيدر وفي الضاحية وعلى صخرة الروشة انتحر.
ولكن، أفما آن لأبطال هذه الملحمة من الملوك والرؤساء والعقلاء والحكماء والعلماء والفقهاء والفلاسفة والأدباء أن يسألوا: لماذا ومن أجل ماذا ومن أجل من تتدحرج رؤوس الناس كل يوم بالعشرات ويتساقطون كالعصافير وكالطير يرقصون مذبوحين؟
لماذا ومن أجل ماذا وخدمةً لأيِّ ربيع عربي تدكّ المدن، وتحطم هياكل التاريخ، وتتهاوى القباب، وتدمر البيوت على الأهلين والمعابد على المصلين، وكل ذلك باسم الرحمن الرحيم.
ولماذا؟ وإِلامَ ستبقى بطون المدافع فارغة وأفواه الراجمات جائعة ولا تنقطع شهيتها عن التهام اللحم، وحتّامَ تظل الخناجر تبقر البطون، والسيوف تنهل دماً من أعناق محلّلة للذبح؟
متى يتوقف هذا الموت العربي الذي أصبح مهنة رائجة للإرتزاق، وكأنما القتلة العرب كالأطباء العرب يموت المريض على أيديهم وينالون أجراً على وفاته.
أمِنْ أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وعزّة العروبة والقضية العربية الأولى… أوْ مِنْ أجل رفعة الإسلام وباذخ مجده، تصدر الفتاوى لحضِّ العراقيين على قتال العراقيين، والمسلمين على مقاتلة المسلمين، فيقاتل «داعش» الشيعة انتصاراً لمعاوية، ويقاتل الشيعة معاوية انتصاراً لكربلاء، في بلدٍ حقق فيه حمورابي وحدة ما بين النهرين منذ سنة 1700 قبل الميلاد، وسنّ شريعة إنسانية تأثّر بها النبي ابراهيم، ليتزوج من «هاجر» بهدف إنجاب البنين وأظنّه ما كان يفعل، لو يعلم أن ذريته من بعد، ستتقاتل هكذا فيما بينها.
والبلد الذي أحرق فيه الفاتح المغولي هولاكو أبرز مكتبة عربية في بغداد، يعلن فيه اليوم فاتحٌ مغولي آخر موت الحضارة حين تُحرق الكتب المدرسية في الموصل بحجة منافاتها مع تعاليم الإسلام.
ألمْ يستفق بعد الحكام والقادة العرب، حتى ولو كانوا يترنحون بين الجواري وفي أيديهم الكؤوس المحرّمة؟ وهل يعرف «داعش»، والحكماء العرب والفلاسفة والأئمة والعلماء، أن جنّة الربيع العربي التي تجري تحتها أنهار الدم، إنما هي تروي الربيع الإسرائيلي والغليل الإسرائيلي والمصير الإسرائيلي والكيان، الى آخر الزمان والى يوم يُبْعثون؟
ألَم يتساءل العسكريون والحكام العرب، لوْ أن ملايين الأطنان من الحديد والنار والبارود التي فجروها على رؤوس شعوبهم، الى جانب أطنان من الأوراق الخضر، لو أنهم استعملوا بعض بعضها على سبيل الدعابة ضد إسرائيل لكان «بلفور» لعن نفسه في قبره قبل أن يطلق وعْدَهُ بقيام الدولة اليهودية، ولكانت دخلت إسرائيل النار، ودخلوا هم الجنة الى حيث الحوريات، حين أن الآخرة الصالحة ليست مضمونة لمن «ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وأَبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم» كما جاء في سورة البقرة».
أيها الناس:
يقول الفيلسوف الألماني هيغل: «تندلع الحروب عندما تكون ضرورية ثم تنمو المواسم من جديد وتتوقف الألسنة عن الثرثرة».
وإذا شئتم ألّا تأخذوا الحكمة من الفلاسفة، فإن حكمة المجانين تدعوكم الى أن توقفوا سيوفكم عن الذبح وألسنتكم عن الثرثرة أمام جدية التاريخ، إن لم يكن إكراماً لله والدين والأوطان والإنسان، فإكراماً للفيلسوف هيغل والفلاسفة المجانين.