IMLebanon

الإسلام التركي الرسمي: الاعتدال الفقهي والانخراط الصراعي

البيان الذي صدر عن “رئاسة الشؤون الدينية” في تركيا الأسبوع المنصرم (18 حزيران) حول العلاقات بين المذاهب في العالم المسلم بمناسبة التطورات في العراق بيانٌ غيرُ مألوفٍ ومثيرٌ للانتباه على أكثر من صعيد.

لماذا؟

أولاً لأن “رئاسة الشؤون الدينية” هي أعلى هيئة رسمية تركية للتعامل مع قضايا الاسلام في تركيا دين الأكثرية السنية في تركيا. (المذهب الحنفي هو المذهب السائد دولةً ومجتمعاً). وهي إدارة تأسّست عام 1924 كجزء من مؤسّسات الجمهورية التركية.

ثانياً لأن هذه الإدارة تابعة تقليديّاً لرئاسة الوزراء مباشرة مما يعني أن أي موقف فقهي أو مبدئي ذي طابع سياسي يصدر عنها يجب أن يحظى بموافقة رئيس الوزراء. أي حالياً بموافقة رجب طيّب أردوغان (يرأسها حالياً الشيخ محمد غورميز).

ثالثا لأن التوقيت الذي يصدر فيه له دلالة كبيرة على موقع تركيا في الصراع السياسي والعسكري المندلع في المنطقة.

رابعاً لأنه موقف الإسلام التركي من الفتنة المذهبية السنية الشيعيّة المشتعلة في العالم المسلم.

البيان من حيث المضمون الفقهي تعبيرٌ واضح عن تقاليد الإسلام التركي المعتدل إسلامياً والحاضنة تقليدياً للتعددية المذهبية في الإسلام. وبعض أبرز ما ورد فيه على هذا الصعيد قوله:

“إن كل شخص يقول “أنا مسلم” يدخل في دائرة الإسلام، وليس لأحد صلاحية إخراج أي شخص من الإسلام”.

ويقول:

“يجب أن يعتبر الجميع أن هناك فتنة كبرى في النظر إلى الاختلافات بين أهل السُنّة وأهل البيت، الفريقين اللذين ظهرا في إطار التطور التاريخي للإسلام… فأهل السُنّة وأهل البيت ينتمون إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم”.

عبارات الاعتدال في البيان تتكرّر بما لا يدع مجالاً لأي التباس حول انتماء الإسلام التركي، وهو في البيان الإسلام الرسمي للدولة العلمانية، المستمد من التجربة التاريخية للمذهب الحنفي كمذهب الدولة العثمانيّة.

لكن المشكلة التي تواجه المراقب في قراءة البيان هي في مضمونه السياسي.

البيان يتضمن فقرات صريحة في إدانة الفكر التكفيري للجماعات السنية المتطرفة ونهجها الاستئصالي لكن في الوقت نفسه هناك فقرات تنتقد دون تسمية دعوة المرجعية الشيعية العليا في النجف إلى “الجهاد”.

يقول البيان:

“لا يمكن قبول أحد الأطراف المتنازعة في العراق أن يطلق تصريحات تهديدية موجهة لهدم أضرحة شخصيات معنوية ذات أهمية لدى أهل البيت مثل سيدنا علي وسيدنا الحسين وأبي الفضل العباس الموجودة في النجف وكربلاء. وإن هذه الوضعية تُظهر كيف سيبتعد المسلمون عن الاستماع لصوت العقل والحكمة. ذلك أن الأماكن الاستثنائية مثل النجف وكربلاء، وكذا كبراء أهل البيت مثل سيدنا علي وسيدنا الحسين وأبي الفضل العباس، ليسوا قيما خاصة بالشيعة أو السنة فقط، بل هم قيمٌ كبيرة ومشتركة للأمة الإسلامية بأسرها”.

هذا حول التكفيريّين أما حول دعوة السيد السيستاني (ودون تسميته) فيقول البيان:

“لا تمكن الموافقة على أن يعلن أحد الأطراف الجهادَ على طرف آخر. ذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لم يأمرا بالجهاد الذي يَعتبِر فيه مسلمٌ دمَ أخيه المسلم وروحه حلالاً يفعل فيهما ما يشاء. وإن أكبر أنواع الجهاد الذي يجب على المسلمين جميعاً اليوم الاهتمام به هو الجهاد ضد الجهل والتعصب والفتنة والفرقة. ولا يستطيع أحد أن يرى أنه مشروع أن يعيِّش الآخرين الظلم في إطار ادعاء الجهاد ضد الظلم”.

لهذا السؤال السياسي في توقيت ومضمون البيان يصبح كالتالي:

هل هذا البيان ذو النص “المحايد” هو إعلان “انخراط” رجب طيب أردوغان في الصراع الجيوبوليتيكي على العراق؟

أو بسؤال آخر: إذا كان البيان محايداً بل منفتحاً على المستوى الفقهي ويعبّر عن إسلام ما قبل الفتنة ويحمل – نصّياً – رصيدا معتدلاً لمستقبل ما بعد الفتنة، فهل هو سياسيّاً طريقة رجب طيّب أردوغان في الانخراط داخل تحالف الدول الذي ساعد ونظّم تحالف القوى العراقية وغير العراقية الذي أسقط الموصل ومعظم الشمال الغربي في المناطق ذات الأغلبية السنية العربية وأخرجها من سلطة النفوذ الشيعي الحاكم في بغداد؟

المفتاح السياسي للنص هو النقد الذي يوجّهه لفتوى المرجعية الشيعية من ضمن نقده “التصريحات المتضمّنة عبارات العنف المتبادل”.

يصف البيان الأحداث في العراق بأنها “الفوضى التي شهدتها المدن العراقية والسورية أخيراً، وفي مقدمها مدينة الموصل”.

إذن هي “فوضى” تجتاح مدن الجوار التركي الجنوبي وتستلزم المعالجة لـ”الحيلولة دون وقوع ما يمكن أن يحدث في المستقبل”.

في هذه “الفوضى” تدخل تركيا. وعندما تكون هناك دولتان في المنطقة في طور التحلّل، هما العراق وسوريا، من الواضح أن العقل السياسي الذي يدير الأمور في أنقرة يرى على الأرجح أنه على تركيا أن تكون “حاضرة في السوق” مهما كانت المخاطر، خصوصا أن الصراع يدور في مناطق ولايات عثمانية سابقة وفي زمن سياسي تعود فيه ديناميّات ما قبل سايكس – بيكو وتحديداً في الموصل. الموصل التي حاول مصطفى كمال أتاتورك استعادتها في مفاوضات لوزان في العشرينات من القرن المنصرم. لذلك بيان “رئاسة الشؤون الدينيّة” شديد الدلالة من حيث هو في آنٍ معاً بيان محايد مذهبياً ولكنه سياسياً يأخذ مسافة واضحة من “الهلال الشيعي” بقيادة إيران والذي وٓجّهت إليه أحداثُ الموصل ضربة كبيرة. طبعاً البيان لا يأتي بأي صورة على ذكر إيران ولا “الهلال” ولكن تضميناته النقدية لفتوى المرجعية النجفية (وأكّرر أيضاً: من دون تسمية) هو “كود” اللحظة السياسية التي أنتجت البيان في أنقرة.

إيران صديقة تركيا لكن ليس في العراق وسوريا.