لا يمكن أن تمرّ الزيارة التي قام بها أمس وفد من الحزب «التقدمي الاشتراكي» لمنطقة الضبية والاجتماع مع وفد يمثل قيادة حزب «القوات اللبنانية»، في هذه المرحلة السياسية «الرئاسية» الحرجة التي أنتجت فراغاً في كرسي الرئاسة الأولى بفعل المقاطعة الممنهجة التي مارسها «حزب الله» وحليفه تكتل «التغيير والاصلاح» لجلسات انتخاب رئيس عتيد للجمهورية خلفاً للرئيس العماد ميشال سليمان، من دون أن تكون لها نتائج حسّية على هذا الملف «الساخن».
صحيح أن المواقف السياسية لكلا الفريقين تباعدت منذ أن قرر النائب وليد جنبلاط في آب 2009 التموضع في الوسط وانتهاج سياسة الحوار والانفتاح على جميع القوى السياسية التي تراصفت بين فريقين متباعدين لدرجة أنه كان حتى الأمس القريب مجرد التفكير بإمكان إعادة فتح قنوات الاتصال بين هذين الفريقين «ضرباً من الخيال».
لكن الصحيح أيضاً ان مواقف جنبلاط من قضية العيش المشترك في الجبل لا تزال بالنسبة إليه تحتل أولوية على كل قضية أخرى مهما كانت أهميتها، وهو في هذا السبيل لم يقطع «شعرة معاوية» لا مع «القوات» ولا مع «العونيين» وخير دليل على ذلك مهرجان تكريس المصالحة النهائية بين ابناء بلدة بريح الشوفية «المقيمين» الدروز و«العائدين» المسيحيين «عونيين» كانوا أم «قواتيين» أم «شمعونيين» الذي رعاه مع الرئيس سليمان، حيث حرص على أن يكون في مقدم الحضور نواب يمثلون جميع هذه «الشرائح» السياسية «المسيحية» التي لها تمثيلها في الجبل.
وقد أكّد أمين السر العام في «الاشتراكي» ظافر ناصر أهمية «الرغبة المشتركة في التواصل الذي يحصّن واقع العيش الواحد في الجبل» وهو في الحقيقة كان العنوان الرئيسي للزيارة الاشتراكية، في حين شدّد عضو الهيئة التنفيذية في «القوات» أدي أبي اللمع على أن يكون «العيش المشترك في لبنان والجبل على أفضل وجه ونحرص دائماً على الحوار بيننا وبين الحزب الاشتراكي».
هذه الرسالة السياسية في الشكل ضرورية ومهمة لتحصين الجبل بشكل خاص ولبنان بشكل عام. لكن يجب الإشارة إلى أنه حتى في عزّ الانقسام السياسي الأخير، حرص جنبلاط من جهته كما الدكتور سمير جعجع، على عدم مقاربة أي موضوع سياسي اختلفا حوله أو اتفقا عليه، بطريقة تؤثر بأي شكل من الأشكال على المصالحة التاريخية التي رعاها البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في العام 2000 من المختارة، وطوت صفحة أليمة من التاريخ المشترك بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان.
إذاً، فموضوع العيش المشترك أمر محسوم ولا يحتاج إلى لقاء قيادي بين الحزبين على المستوى الذي تم فيه. فالفريقان متفاهمان حوله ومتضامنان معاً في «السراء والضراء» على عدم الإساءة إليه. غير أن في المضمون، كان الاستحقاق الرئاسي محور المحادثات «الدسمة» التي دارت بين الوفدين، ولم يحاول اي منهما إخفاء ذلك عن الاعلام الذي كان حاضراً للاجتماع في الضبية. فقد أكّد ناصر «بذل كل جهد لانجاز الاستحقاق الرئاسي الذي يهدّد الواقع اللبناني ككل، كي لا تطول فترة الشغور الحاصلة الآن»، في حين أن أبي اللمع اعتبر أن «الفراغ مدمّر ويخلق مشاكل نحن بغنى عنها»، داعياً إلى «إعادة النظر بالموقف التعطيلي من خلال التغيّب عن حضور جلسات الانتخاب».
لكن ماذا عن خلاصة المباحثات التي دارت حول هذا الموضوع؟
جنبلاط متمسّك بمرشح «اللقاء الديموقراطي» النائب هنري حلو، لأنه يرى فيه شخصية الرئيس الذي يحتاج إليه البلد انطلاقاً من قاعدة «لا أحد يلغي أحداً» و«لا يحكم البلد إلا بالتوافق والاعتدال»، وأنه سيكون خير خلف لخير سلف ويسير على نهج اعتدال الرئيس سليمان و«إعلان بعبدا»، مقابل استمرار جعجع في ترشحه وهو حق طبيعي له أولاً كـ «ماروني» وثانياً كسياسي يحمل برنامجاً يعبّر عن رؤى وطموحات جزء كبير من اللبنانيين نزلوا إلى ساحة الحرية في 14 آذار 2005 للمطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال.
غير أن جعجع الذي بعد أن دخلت البلاد في الشغور الرئاسي، أبدى استعداداً للتنازل عن ترشيحه لصالح شخصية مارونية أخرى، شرط تراجع فريق «8 آذار» والنائب عون عن ترشّحه أو ترشيح النائب سليمان فرنجية إلى الرئاسة، وهي خطوة لا بد أنها تسجّل لجعجع الذي أظهر «حساً وطنياً» بتخلّيه عن طموحه المشروع للوصول إلى كرسي بعبدا، وتقديم «المصلحة الوطنية العليا» على ما عداها.
جنبلاط من ناحيته، وعلى الرغم من استمراره في دعم ترشيح النائب حلو، لا يستبعد إمكانية التفاهم على اسم رئيس لا يشكّل استفزازاً لأي من الفريقين السياسيين في البلد، ولا يعتبر رئيس تحدٍ، وهو من هذا المنطلق أكّد ولا يزال يؤكّد أنه ضد وصول جعجع أو عون إلى الرئاسة، ويعزّز موقفه هذا ما قاله الرئيس سليمان بأن «أي رئيس من فريق سيحاول الانتقام من الفريق الآخر».
فهل حاول الوفد الاشتراكي إقناع «القواتيين» بتبنّي ترشيح حلو؟ لم يخفِ فريق «8 آذار» هاجسه من أن يكون هذا السيناريو قد بحث في الاجتماعات التي احتضنتها العاصمة الفرنسية باريس في الأسبوع ما قبل الماضي، حتى أن نوابه ذهبوا إلى حد التصريح علناً بأنهم سيعطّلون الجلسة الأخيرة التي دعا إليها بري في 22 أيار الجاري تحت هذه الذريعة، وكان فرنجية واضحاً عندما تساءل مع الزميل مارسيل غانم «من يضمن أن أصوات حلو الـ16 لن تصبح 65 صوتاً؟»
من المؤكد في المقابل أن وفد «القوات» لم يحاول دفع «الاشتراكيين» إلى تبنّي ترشيح جعجع لعلمهم المسبق بعدم جدوى هذه المحاولة. لكن المهم الذي يمكن استخلاصه من هذا الاجتماع هو استعداد حزب «القوات» ورئيسه جعجع القبول بفكرة الإتيان برئيس توافقي قد يكون حلو أو أحد الأسماء التي وردت على ما درجت وسائل الاعلام على وصفه بـ «لائحة بكركي».
فهل سينسحب هذا الاستعداد على الفريق «العوني» و«حزب الله»، خصوصاً أن الاستمرار في الشغور لا يفيد أحداً؟