تمثّل عودة الرئيس سعد الحريري إلى بيروت بعد ثلاث سنوات ونصف على بقائه خارج الوطن خطوة محوريّة وفي الاتجاه الصحيح، والمطلوب تأمينها أمنياً ومواكبتها أو ملاقاتها سياسياً إذا ما أراد اللبنانيون تنظيم خلافهم نوعاً ما وتكريس اختلاف الأوضاع في بلدهم، رغم كل هشاشة وانقسام وتغلّب، عما هو دائر في الإقليم من شلالات دم وانهيارات مجتمعية كارثية.
يعود الرئيس الحريري الى بيروت ولم يسقط النظام السوري بعد. لكن شتان شتان بين ما كانت عليه حال النظام يوم غادر الحريري لبنان وبينه اليوم. أيضاً الثورة السورية قبل ثلاث سنوات ليست ابداً ما هي عليه اليوم. و»حزب الله» المتدخل في الحرب الى جانب النظام السوري، دخل في استنزاف مستديم، حتى صار انقلاب القمصان السود يبدو اليوم حادثة طريفة قياساً على هذه المأساة. بالتوازي، ينظر الفرقاء والمراقبون الى هذه العودة من بوابة الاستحقاق الرئاسي. ففي أقل تقدير من يعود لشغل الموقع والدور الذي له، انما يواجه بمجرد عودته خيار الفراغ المتمدد في الزمان، والمكلّف دستورياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً.
هذه العودة تفتح المجال لنقاش أكثر جدية في هذا البلد. فتكريس خيارات الاعتدال السياسي والديني بين مسلمي لبنان السنّة ينبغي ان يقترن بتقليص تدريجي للغلبة الفئوية التي يشكلها «حزب الله» بالدرجة الاولى. الاعتدال ليس شرطياً: لا يشترط اعتدال الآخر المذهبي او الطائفي كي يهمّ باظهار اعتداله هو. هو اعتدال من حيث طبيعته، في شكل تعريفه لنفسه، ومن حيث وعيه لمصالحه ونظرته للمصلحة الوطنية. لكن الاعتدال تفاعلي: فاعتدال السنّة فيه أيضاً مصلحة حياتية للشيعة والعكس بالعكس. عندما يتكرّس خيار الاعتدال في جمهور بعينه، يصبح الانتقال الى الاعتدال هو التحدي بالنسبة الى الجمهور المقابل. الاعتدال السني لا يشترط اعتدالاً شيعياً يسبقه، لكنه يتحول بثباته، وبجديته في مواجهة حالات الغلو ضمن طائفته الى دعوة مفتوحة للاعتدال الشيعي، ولـ»حزب الله» بأن ينتقل من موقع التطرف الى موقع الاعتدال الشيعي. هذا صعب، لكن لا شيء مستحيلا، ومن الضرورة بمكان الدفع في هذا الاتجاه.
تثور ثائرة «حزب الله» كلما قارنه أحد ما بـ»داعش« و«النصرة». بعض من هذا غير مفهوم ما دام الحزب يشارك في حرب عابرة للحدود ذات طابع مذهبي نافر. لكن بعضاً منه مفهوم من جهة ان «حزب الله» يأبى ان يتعرّف على نفسه في مرآة «داعش« و«النصرة«، فيسهب في شرح عقائد وسلوكيات تقيم سداً منيعاً بينه وبينهما، ولو ان كل ذلك يتحرّك ضمن الجملة الاستطرادية للسيد حسن عشية معركة القصير «قد نكون نحن وانتم مختلفون في تفسير الواجب الجهادي«.
الاختيار بين منطق التماثل وبين منطق التضاد مع «داعش» مسألة تعني «حزب الله» بالدرجة الأولى. فاذا كانت ثائرته تثور عندما يقارن بـ»داعش» فعليه ان يختار هذه الوجهة ويلبي شروطها. اول هذه الشروط ان يكف عن اطلاق تسمية «داعش» على كل من يخالفه في السياسة. المشكلة مع «حزب الله» انه لا يقرّ الواقع السني على ما هو عليه ولا الواقع المسيحي على ما هو عليه. فالسنة عندهم اما داعشيون واما موالون لأميركا واما موالون له. وهذا، في نطاق لبنان، تغييب للكتلة السنية الاوسع، وبالنسبة لسوريا، امعان في منطق الفتنة المستظلة بالنظام الفئوي بالضد من اكثرية الشعب السوري، وفي العراق امعان في الاضطهاد الفئوي الذي سمح للظاهرة الداعشية بأن تتمدد بهذا الشكل المخيف.
الاعتدال السنّي في الحالة اللبنانية لا يشترط الاعتدال الشيعي، لكنه اليوم بالذات حاجة وطنية لشيعة لبنان ومسيحييه قبل سنته، وهذه الحاجة تتأمن بشكل منحرف اذا ما جرت المكابرة عليها ظاهراً والاستناد اليها في الخفايا، في حين انها يمكن ان تتحول الى مدخل اسعافي صحي للتجربة اللبنانية اذا اقرّت بشكل واقعي وشفاف. عندها سيكون بمستطاع اكثر من مدرسة اعتدال ان تزدهر على الارض اللبنانية وان تكتشف «فضيلة» ان للبنان حدودا يفترض ان لا تلهيه عن التضامن مع الشعوب المظلومة والمضطهدة لكن عليها ان تقيه من كل حريق وانهيار يضربان الاقليم.