IMLebanon

الانتخابات الرئاسية في سوريا: آلية للإخضاع

 

اقترنت الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو النقابية في سوريا، في ظل النظام الذي أرساه الأسد الأب وأورثه للابن بأساليب الإذلال للشعب السوري. هذا ينطبق على الانتخابات النقابية. التي هي في عُرف (الديمقراطية الشعبية) العتيدة منظمات حزبية بالأساس أو بالأصح مخابراتية، لأن الأخيرة تتولَّى تنصيب القيادات النقابية وترتيب آليات الترشيح والانتخاب إلى الاحتفال بالنتائج التي من المفترض أن يُعبر الجميع عن رضاهم وتسليمهم! وتُطبّق هذه الآلية نفسها على انتخابات مجلس الشعب مع اختلافات طفيفة في الديكور والإخراج. تُشرف أجهزة المخابرات على ترشيح قائمة (الجبهة الوطنية التقدمية) باتباع قاعدة: الأفضلية للأكثر ولاءً ومطواعية، وإذا تساوت الشروط فيأتي الفرق من حجم الأتاوات التي يقدمها المرشحون (للجهات المختصة) للفوز بعضوية قائمة (الجبهة)، بعدها يأتي دور ما يسمى (المستقلين) – وهم رجال الأعمال الذين ترك لهم القانون الانتخابي عام 1973 الفرصة للدخول في (مجلس الشعب) – فتصطفي منهم المخابرات ماتشاء، والقاعدة المُتبعة هنا هي أن(يدفع) كل المرشحين أتاوة، من دون استثناء، عربوناً للترشح على أن يبقى القرار لرجال المخابرات في اختيار المناسب بينهم (مالاً وولاء)، ليتوِّجوا نجاحهم المالي بنجاح في التقرُّب أكثر من السلطات التنفيذية العليا لتسهيل أعمالهم والارتقاء فيها إلى مستوى أرقى.

ويقف الرئيس وراء هذا المشهد الانتخابي السلطوي، فهو رئيس الدولة وقائد القوات المسلحة، ورئيس حزب البعث الأبدي، و(المعلِّم) أي قائد المخابرات. هو الرمز الفعلي المصطفى (للعصبية السلطوية الطائفية) التي تقف في قمم مؤسسات الدولة وقلبها المحرك. لذا ترتقي مناسبة إعادة انتخاب الرئيس إلى (النموذج المؤسس لسلطة الإخضاع) على هدي هذا النموذج (الانتخاب /البيعة) يُعاد انتاج الانتخابات الأخرى (الأوطى). لكن تتميز انتخابات الرئيس عن غيرها بالطقوس التبجيلية/ التقديسية التي تصاحبها. هذه القدسية التي تُسبَغ على الرئيس يتلقاها شبيحته بشغف وربما اقتناع، وبالمقابل تُفرض بالإرهاب على الشعب على سبيل القهر والعنف النفسي. ومع الأيام صار الرئيس وأنصاره أكثر تطلبا لإرغام الشعب على إظهار خضوعه بامتثاله لطقوس التقديس، وذلك بحثاً عن شرعية ضائعة بين (التوريث) والقهر! لذا يأتي دور (المسيرات) لتكريس هذه الطقوس التبجيلية للقائد الرمز، ولتمنح (عصبته الطائفية السلطوية) الثقة بالذات وبالمستقبل: المقدس لايمكن أن يُغلب! عندها تستوي المعارضة للرئيس بالكفر والخيانة لدى الشبيحة ويصبح القتل هو العقاب اللازم!

ليست (الانتخابات)، بهذا المعنى، اختباراً لنجاح أو إخفاق لأن الرئيس فوق كل اختبار ، أنها(الإخضاع والقهر)، إنها المهرجان الأعظم للاستكانة والصمت الأخرس، وعربون الدخول إلى بيت الطاعة، فما يُمارس من العنف والإذلال في أقبية التعذيب، يُمارس الآن جهراً تحت السماء الصافية أمام عدسات الكاميرات مموهاً بأغلفة من الليونة الزائفة! لكن (الإخضاع) لا يستنفد وظائف هذه المناسبة ومقاصدها كافة ، فعملية الإخضاع هذه وإن أُعدت للشعب المُهان، فإن (عصبة) النظام وشبيحته هم بأشد الحاجة لتلك المناسبة لتتجدد ثقتهم بالحاضر والمستقبل، فيغتبطوا بحضور الرئيس القدسي في الزمان، وليثبتوا جدارتهم في طاعته وتقواه. أنها برهة تشبه في جوانب كثيرة أعياد الخصب والولادة البدئية، وانبثاق لحظات الخلق الأولى. فالسوريون جميعاً يتذكرون انتخابات أيار 2007. حين شرع الناس قبل شهر من يوم الاستفتاء يتجمهرون في جماعات يرقصون، ويغنون. تكفَّل رامي مخلوف(ابن الخال) بولائم تلك الاحتفالات الشهيرة، بعد أن جمع رجال الأعمال وأجبرهم على دفع مئات الملايين لدفع تكلفة تلك الاحتفالات. نصَّب أعمدة الخيام في كل حارة، في الساحات، لتجمهر الناس فيها ليحتسوا القهوة وليأكلوا ويشربوا، ثم ليرقصوا ويغنوا للقائد الرمز. فما بقي وزير أو عميد جامعة أو أستاذ دون أن يحفزه الفخر بالرقص في هذا اليوم الجليل! فاستمرت الطقوس عامرة شهراً كاملاً على حساب ابن خال الرئيس، وكرست الجموع الغفيرة تقديسها (الانتخابي) ممهوراً في الغالب ببصمة الدم، رمز القرابين التي مارستها البشرية في تاريخها الطويل.

لا يفكر أحد بمعرفة نتيجة الاستفتاء، فالنتيجة معروفة لهم، إنما يتجهون لممارسة الطقوس الخضوع والإذعان التي تصاحب سماع النتيجة بالإذن. فتتجدد في ذلك طقوس التبريك والإجلال من الأنصار والعصبة، ويرضخ باقي الجموع للمظاهر المفروضة عليهم قهراً ، فتحول الجغرافية السورية إلى مسرح واسع، يتحول فيه الشعب إلى كتلة عارمة من الممثلين، لذا لم يكن بالمصادفة أن يتفوق السوريون في فن الدراما وينافسوا المصريين بذلك!

وقد أُضيفت لانتخابات اليوم وظائف جديدة، فإلى جانب محاولة استعادة (الأبدية)تمثيلياً، فإن (رسالتها)تبدو، هذه المرة، واضحة ومباشرة إلى الشعب في الوطن والشتات : مستمر في الحكم على رغم كل الجرائم التي عُرفت ووُثِّقَت وتلك التي لم تُعرَف بعد. أذعنوا واعلنوا السمع والطاعة وانقذوا أطفالكم من الموت جوعاً، حافظوا على القليل الذي تبقّى لكم، ولعلكم تنقذون سجيناً أو تستعيدون مفقوداً. وليقول للموالين: مستمر في الحكم على رغم كل المؤامرات وكل الدول التي وقفت ضدّي!. لذا حرصت مشاهد الانتخابات على وضع السوريين أمام خيارين: أما الاشتراك في حملة (انتخابية) ومؤدّاها الخضوع للنظام، أو مواصلة العيش في النزوح والتهجير القسريين وتحت القصف والبراميل والتجويع والترويع (الداعشي)!! ربما شعار (سوا)، وهو شعار حملته الانتخابية، كان موجهاً لشبيحته و(عصبته) يقول لها: (سوا) (معاً): قتلنا وذبحنا، وسوا معاً قصفنا بالصواريخ والبراميل والكيماوي، وانتهكنا الأعراض والكرامات، و(سوا)معاً استبحنا المدن والبلدات والبيوت والمساجد والمدارس معاً، وخرّبنا سوريا!! ويرد في الخاطر هنا المشهد المروع للدمار الهمجي لبيوت حمص وحاراتها، الذي حمل في طياته، وإن كان يتناقض كليّاً مع طبيعة(حملة)الانتخابات، يحمل في طياته تهديداً مبطناً :هذا مصير مدنكم إذا لم تنصاعوا للإخضاع!

وفي الحقيقة فإن ما ما يتمخض عن (صندوق الاقتراع) هنا ليس فوز الرئيس، فهذا تحصيل حاصل، بل القهر المستدام. القهر المراوح بين القمع النفسي وبين إزهاق الأرواح وسفك الدماء. إنها مجرد عملية يثبت النظام من خلالها أن شيئاً لم يتغيّر، والأهم لديه هو إقامة (عراضة) انتخابية كتلك التي فعلها في لبنان ليقول للعالم إنه لا يزال قادراً على إخراج كثيرين للرقص والهتاف له!

بدأ الاستعداد للانتخابات فعلياً قبل شهرين من موعدها، حين ألزمت السلطات الأمنية أصحاب المحال -في مناطق سيطرته- على تعليق صورته، وعادت من جديد بطريقة أكثر إرعاباً (المسيرات).وهي تقليد قديم تلازم مع سلطة الأب! أما في يوم الانتخاب، فقد أغار طيران النظام على ريف دمشق، مع بدء عمليات فرز الأصوات، فقتل نحو عشرين مدنياً. وأمطر بحممه النارية أحياء مختلفة في حلب وريفها.ثم ختمت الانتخابات بالاحتفالات بالفوز بالدماء سقط عشرين شهيداً برصاص الموالين المبتهجين، فكانت ليلة تليق بخاتمة (العرس الديموقراطي) وصلت عدواها إلى جماعة نصر الله!