IMLebanon

الانتخابات العربية بالألوان …

لا يمكن تجاهل ظاهرة الانتخابات “التعددية” التي امتدت إلى العديد من الدول العربية. المطلب الديموقراطي كأولوية عمره أكثر من ثلاثة عقود. ومحاولات الأنظمة تأجيله والالتفاف عليه وقمعه مستمرة ومتمادية. ليس في المشهد الانتخابي العربي المنبثق عن “الثورات” ما يدل على تحوّل جدي نحو الخيار الديموقراطي وفق المعايير الأساسية المعروفة، وفي مقدمتها حياد الدولة ومناخ الحرية فضلاً عن “الأحزاب الديموقراطية”.

لا يمنع ذلك من انتشار ثقافة الاختيار والمشاركة كأحد نتائج الثورات العربية. لكن التحشيد الشعبي السياسي في العراق ومصر وسوريا، أو هذه التظاهرات الانتخابية، يعكس مشكلات المجتمع ربما أكثر من مشكلات الدولة أو الأنظمة السياسية. كما أنه جزء من مناخ عالمي شاخت فيه الديموقراطية أمام آليات إنتاج السلطة والقرار انطلاقاً من تفاعلات دولية متعددة وخطيرة.

تأخر العرب أكثر من غيرهم عن مواكبة المعطيات الكونية المعاصرة ومنها سلوك المسار الديموقراطي. لكن شعوباً أخرى أخذت هذا المسار من أوروبا الشرقية إلى أميركا الجنوبية وآسيا ليست في أفضل حال، بما في ذلك النموذجان الإسلاميان الأكثر إيحاءً للعرب في تركيا وإيران. في مكان ما يجب البحث عن معطيات الديموقراطية وشروطها في بنية المجتمعات العربية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التاريخية والمعاصرة، ويجب الاستدراك دائماً في فهم المناخ العالمي الذي يلقي بثقله على سلوكيات الشعوب مع هذا الاجتياح الهائل للتكنولوجيا المعاصرة والمداخلات الاقتصادية والعسكرية والسياسية المباشرة. إن تاريخ أكثر من قرن على نظام التعددية والحرية والانتخاب و”الديموقراطية” التمثيلية في لبنان يتعرض إلى المزيد من التشوّهات. التفسير الكسول هو الحديث عن النظام الانتخابي، والتفسير الأكثر جدية هو المناخ الإقليمي، والتفسير الأكثر عمقاً هو في تداعيات ثقافة العولمة في تناقضاتها من حيث استنفارها للعصبيات والهويات لحظة احتوائها في منظومة دولية يحكمها اقتصاد خفي، أو مالي ليست له تجسيدات واضحة.

على أي حال لا نعتقد كما الآخرون أن مشكلات الشعوب تحل عن طريق آلية واحدة أو من خلال مهمة واحدة. فلا “الديموقراطية هي الحل”، ولا “الإسلام هو الحل”، ولا سوى ذلك من أشكال الاختزال.

ما يعنينا الآن فهم أوضاع شعوب وبلاد عربية هي في دوامة الحروب الأهلية ولا معنى لقياس تجربتها الديموقراطية، لا في العراق ولا اليمن ولا ليبيا ولا سوريا. الانتخابات في هذه البلدان على تفاوت هي جزء من نزاعات القوة، بل الترهيب السياسي والشحن الطائفي، والديموقراطية خيار سياسي سلمي تفسده أية ظواهر للقوة معنوية أم مادية. أما مصر فلا يمكن الحكم على تجربتها بالأسود والأبيض، أو من دون جدلية الأوضاع الداخلية والخارجية والإرث السياسي التي أوصلت كلها إلى هذه الصورة الضبابية أو المركّبة سلبياً وإيجابياً. المهم أن نتذكر واقعة خروج مصر من احتمالات “حرب أهلية” كانت قد ذرّت بقرنها مع صعود الإسلام السياسي كمشروع دولي. تهاوى هذا المشروع في ركيزتيه الاستبدادية، والسياسية الاجتماعية والوطنية، اللتين كانتا ستأخذان مصر إلى موقع انعزالي جديد من دون أية مكتسبات للشعب المصري. الظاهرة الثانية التي تستحق الوقوف عندها هي ثبات الدولة ومؤسساتها وبالأخص جيشها، لأن انهيار “الدولة” ليس مطلباً ثورياً أو تقدمياً في عالم اليوم، ولا قدرة للثورات المعاصرة أن تقدّم بديلاً لتنظيم المجتمع بإعادة تأسيسه، بل هي مطالبة بجعل الدولة محل الصراع بين الأفكار والمشاريع والبرامج والتوازنات الاجتماعية. فلا يجوز أن نشعر بالإحباط إزاء عدم تفكّك الدولة، بل علينا أن نبحث عن وسائل إخضاعها لمطالب “الثورة” أو للمعايير الديموقراطية ولثقافة العدالة الاجتماعية.

وفي إطار الإنجاز الدستوري الذي تحقق في مصر لا نميل إلى الاعتقاد بإمكان انبعاث الدكتاتورية ولو كانت مظاهر وسلوكيات الحد من الحريات والتضييق على الحركات السياسية الشبابية هي أحد العلائم المقلقة.

فلا بديل الآن من استئناف الحركات السياسية لتعبئة وتنظيم نفسها في “الميدان” الفعلي الآن المفتوح ولو تحت سقوف محددة من أجل تطوير المنافسة السياسية الديموقراطية، وهذا ما سيتحدد في الانتخابات البرلمانية أكثر من الانتخابات الرئاسية. المفارقة هنا أن القوى “التقليدية” التي يمثلها الرئيس القادم من المؤسسة العسكرية لديها ما تقدمه على صعيد الشخصيات الوطنية والشعبية المعروفة، بينما لم يقدّم الشارع أو الميدان الثوري هذا النوع من القيادات. قيل إن ذلك أحد نقائص الثورة، وهو في حقيقته أحد الظواهر الموضوعية والصحية التي لا تختصر حركة الشعوب بالمخلّص والبطل الفرد لمصلحة فاعلية الجماعات.

لم تكن ولا ثورة في التاريخ تُقاس بلحظة انفجارها فقط. إن العملية الثورية استمرار يقود إلى نتائج ليست بالضرورة مضمونة، لكن المؤكد أن العرب ما قبل “الثورات” ليسوا كما بعدها.