مُعذّبة هذه المنطقة التي قُدر لنا الولادة فيها، بقَدرِ ما هي مباركة هي بقعة دموية لا تشبع من أبنائها المقتولين، أينما وجّهتَ وجهك ألفيت الموت ملقياً رهبة جلاله على بلدانها مئاتُ المئات يقضون في لحظة واحدة، هو ما قُدّرَ لنا، أما القيل والقال وتبادل التهم ومسؤوليات القتل والهرج والمرج والتباس الصور علينا واختلاطها وإحساسنا بالعجز التام، كلّه ليس أكثر من أدوات يُحركها ما يتنزّل علينا من أقدارنا من السموات، بصدقٍ شديد أقول: تعبتُ من مشاهد الموتِ والعبث اليومي، تعبتُ من رؤية الناس تقتل وتلقى في مياه الفرات، تعبتُ من سماع روايات الفارّين بأرواحهم من الموت الذي لا نملك منه فراراً، أرهقتُ وتوجعتُ من سماع هارباً يروي أنّ أمّه ماتت في مفازة الفرار وأنه لم يستطع أن يتوقف لدفنها فأولاده معه، أصابني يباسُ حزن جليدي هل نعيش في هذا الزمن أم في زمن حجري كان قبل التاريخ؟ ما الفرق بين إنساننا اليوم وإنسان الكهوف والبراري؟!
ليس هناك فارق كبير وبين الشعوب التي توصف بالهمجية وبيننا وبينها مئات الآلاف من السنين، ولا فرق بين همجيّة داعش وهمجيّة أميركا ولا همجيّة روسيا ولا همجيّة الصمت العربي والأوروبي، هجّرَ مسيحيّو العراق جلسنا نشاهد الخروج المذلّ لشعب من أرضه تحت عناوين أفرغت أساساً من معانيها الحقيقيّة فعدنا نسمع بمصطلحات «الجزيّة» و»الذمّة»، هذا عند همجية داعش، وزاد الأمر سوءاً عند تعصبٍ همجي آخر ساهم أيضاً في تفريغ الاصطلاحين من معناهما وتشويه صورتهما، وعبر التاريخ لم يقصّر أي حكم إسلامي في الإساءة لمعنيين لا يستقيم استخدامهما إلا في أرض الإسلام ودولته التي اندثرت معالمها على أرض الواقع، بحيث أصبحنا جميعاً مسلمين ومسيحيين ندفع «الجزية عن يدٍ» بل وندفعها ونحن «صاغرون»، فهل سمعتم بأحد يدفع للدولة «جزياتها» الكثيرة وهو فرح سعيد، أم يدفعها وكأن ماله ينسل من روحه؟! وبحيث أصبحنا جميعاً «أهل ذمّةً»، لأننا في «ذمّة دولة لا ذمّة لها»، ولولا أن المواطن يعتبر الدولة تسرقه لما «تعبقر» في كيفية سرقة كهربائها ومائها وضرائبها وهلمّ جراً!!
وأقول، وبصدق المطلوب اليوم من علماء الإسلام ـ وأصحاب العمائم واللحى مستثنون كُلياً من هذا الكلام ـ أن يتقدموا ليضعوا الأمور في نصابها ليعيدوا تبرئة «عهدُ رسول الله وذمّته صلوات الله عليه ـ التي يُعاث إفساداً في معناها كلّ يوم وكلّما تردّدت أخبار داعش وسواها، ألم يئن الأوان للمفكرين والمؤرخين ورجالات العلم المسلمين أن يقدّموا اعتذاراً لمسيحيي المنطقة عن الإساءات الكبرى التي ألحقها بهم حكم العثمانيين وحكم الفاطميين وسواهما، فتسببوا بتشويه صورة المسلمين وإسلامهم؟!
أقول بصدق، لقد تعبتُ من مشهد الدماء الذي لا ينتهي والهجرة والتهجير الذي لا ينتهي وقدرُ لبنان الذي يتكرّر كمشهد واحدٍ لا ينتهي، لكأننا أناس لا يسمعون وإن سمعوا لا يفهمون، وإن فهموا لا يقولون، وإن قالوا لا يفعلون!!!
ما أحوج هذا العالم العربي الحزين إلى أشهر قساوسة مكّة قبل الإسلام، قس بن ساعدة الأيادي وخطبته الشهيرة في سوق عكاظ: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئاً فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعِبَراً(…) ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا؟ تباً لأربابِ الغافلة والأمم الخالية والقرون الماضية (…) يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيد، وزخرف ونجد؟ أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً، وأطول منكم آجالاً؟ طحنهم الثرى بكَلْكَلِه، ومزّقهم الدهر بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية (…)، ثم أنشد قس بن ساعدة بحكمته ما سيبقى سارياً علينا في كلّ آن وزمان، ولكن.. هيهات أن ننتفع أو نعتبر: «في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر/ لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر/ ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر والأكابر/ لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين غابر/ أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر».