IMLebanon

الانشقاق ليس فردياً

يخدع نفسه والآخرين من يرى في انشقاق الجندي عاطف سعد الدين عن الجيش اللبناني والتحاقه بجبهة «النصرة» برقاً في سماء صافية أو حادثاً فردياً لن تكون له توابعه. ربما لم يرافق أي جندي آخر سعد الدين في خطوته، لكن السياق الذي جرى الحادث فيه ينبئ بالكثير.

يكفي النظر الى مسلسل الأحداث في لبنان في الأسبوعين السابقين على فرار سعد الدين لتوقُّع الأسوأ، فمن اضطراب الأمن في طرابلس احتجاجاً على اعتقال «قادة المحاور» في باب التبانة والمراوحة في محاكمات المعتقلين الإسلاميين في ملفات تعود الى حرب مخيم نهر البارد في 2007، واقتحام «حزب الله» والجيش السوري بلدة الطفيل ومقتل عدد من أبناء البلدة أثناء مقاومتهم الهجوم، ثم اعتقال القيادي الإسلامي حسام الصباغ على رغم مشاركته في التنسيق الأمني مع الأجهزة اللبنانية، وصولاً إلى عودة التوتر الشديد في عرسال ومحيطها بسبب المعارك الدائرة في القلمون وجرود البلدة بين مقاتلي المعارضة السورية و «حزب الله»… وكلها عناوين لوضع عام، جاء انشقاق سعد الدين ليشير الى تفاقمه واقترابه من حدود الانفجار.

سبق التطورات هذه استئناف التفجيرات الانتحارية على النحو الذي حصل في منطقتي ضهر البيدر ومدخل الضاحية الجنوبية ثم في فندق «دي روي» في بيروت.

يقول هذا المسلسل أمرين: الأول أن التسوية التي أنهت الفراغ الحكومي في آذار (مارس) الماضي شكلت انتكاسة كبيرة لتيار «المستقبل» وحولته من معترض على نشاطات «حزب الله» في سورية وعلى هيمنته على الأمن والسياسة في لبنان، الى مسهّل لهذه النشاطات والهيمنة ومشارك فيهما من خلال تحالفه أو تقاطعه الموضوعي مع الحزب في اعتبار «الإرهاب» عدوه المطلق، وسيره -مدركاً أو غير مدرك- في مسار اختطه «حزب الله» في استعداء شريحة كانت ذات يوم من جمهور «المستقبل»، هذا على الأقل ما يعبر عنه متحدثون باسم «الإسلاميين» اللبنانيين.

الأمر الثاني، وهو الأهم، أن علامات الشقاق داخل الطائفة السنية اللبنانية تترسخ وتتكرس على نحو لا يترك مجالاً إلا لانتظار المزيد من الصراعات بين التيار الإسلامي الأقرب الى منطق جبهة «النصرة» (وليس «داعش»، لأسباب عدة ترتبط بمشروع «الدولة الإسلامية» قبل البيئة الحاضنة) وبين تيار «المستقبل»، وهو صراع ينطوي على معان اجتماعية وجهوية وطبقية (الفقراء السنة ضد الطبقتين المتوسطة والثرية، أهل الريف ضد أبناء المدن… إلخ)، ما يحيل الى مظاهر الانقسام المسيحي بين «القوات اللبنانية» والتيار العوني.

بيد أن الفارق بين الانقسام السني وبين نظيره المسيحي، يكمن في درجة الاحتقان والقدرة على إخراجه على شكل عنف متعدد الأهداف. وفيما يعترف المسيحيون بحدود قدراتهم وجفاف مصادر تأييدهم الإقليمي والدولي، يرى السنّة أنهم موكلون بمهمة تاريخية تتعلق بوقف التمدد الشيعي– الإيراني ونفض الغبار عن موقعٍ ودورٍ سلبهما تحالف النظام السوري و «حزب الله» وأدى تيار «المستقبل» دور الشاهد العاجز في أحسن الأحوال والمتواطئ في أسوئها، مع ما كانت تتعرض له الطائفة السنية.

بالعودة الى حادثة انشقاق سعد الدين، يتعين الانتباه إلى أنها مجرد رأس جبل جليد الصراعات الطائفية، ليس في الجيش وحده، بل في كل مؤسسات الدولة والإدارة، وأن الصمغ الذي ما زال يجمع لبنان، آخذ في التفكك والزوال. مقابلة هذه الحقائق بكلام إنشائي فارغ هو ما تملكه أجهزة الدولة اليوم، الغارقة في الممارسات الطائفية، فيما تتقدم معاول الانقسام والتفتت.