كأّنَّ حزب محتشمي بات في هذه البلاد يرى لبنان أرضاً بلا شعب. أو حتى شعباً بلا أرض. وجيشاً بلا جيش. وقوى أمنية بلا قوى أمنية. وحدوداً بلا حدود. وجمهورية بلا جمهورية. ورئاسة بلا رئيس. ومجلس نواب بلا نواب. وحكومة بلا وزراء. مجرد بقع جغرافية ومجموعات بشرية تلاقت «بالمصادفة»، بلا تاريخ وبلا حيثية ولا انتماء ولا وطن. هذه النظرة «الاستعمارية» القديمة التي جسّمتها اسرائيل عندما اغتصبت فلسطين. وجسّمها النظام السوري على امتداد أربعة عقود واعتبر كل ما هو موجود هنا في لبنان، مجرد ركام، أو حجارة، أو ناس، بلا جذور، أو ان جذورهم من غيوم تسوح وتطوف في الهواء. إيران ورثت «عقل» اسرائيل أو النظام البعثي في تعاملها مع العراق ولبنان (وصولاً إلى اليمن، والبحرين). وحزب محتشمي بأجهزته (وهو ليس حزباً بقدر ما هو جهاز مسلح مرتبط بقائد فيلق القدس سليماني وبالمؤسسة الملالية)، نفى الكيان عبر نفي الكائن. ونفي الكائن باعتباره هيولى، او احتمالاً، أو خطأ جغرافياً، أو تاريخياً. لبنان خريطة على الورق. ويمكن اسرائيل ووارثتها إيران وتالياً حزبها في لبنان، أن تمزقها كيفما شاءت أو تقسمها كما شاءت. أو تسوّدها، أو تخربها وتشوشها وتقتطعها، أو تربطها، أو تفصلها كما شاءت. وفي نفي الشعب اللبناني وجوداً مادياً، ومعنوياً يعني عملياً و«جهادياً« بإذنه تعالى استباحته، تماماً كما تستبيح الضواري والكواسرُ فرائسَها التي لا ترى فيها سوى طعام. اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تبدو خريطة لبنان، الدولة، والشعب والتاريخ في عين الشكوك، وفي مرمى الخراب، والتهديد والإنكار.
حزب محتشمي، اليوم، في قمة انفصاله عن جاذبية لبنان، وقد صُنع ورَكبَّ وفُبرك في إيران من أجل هذه «الرسالة» الجهادية السامية، والفتوح المذهبي. يتصرف، وحده، يحاور وحده، يحارب وحده. يغتال من يشاء وحده. كأنما لا أحد في المقابل. لا أحد. لا شعب. لا جيش. لا حدود. لا جمهورية. لأنه يعتبر أن كل هذه العناصر المكونة للدولة، والشعب وحتى التراب هي عدو له، إذا قامت لها قيامة، أو ارادت أن تؤكد وجودها. هذا ما حصل في حرب تموز: قرر استجلاب اسرائيل إلى لبنان. وكان الدمار. وكان خراب البلد، ثم انتصب شامخاً فوق هذه الأنقاض وأعلن، وحده، نصره المُبين. نصر بلا نصر. تماماً كما أعلن النظام السوري انتصاره في 1967. نصر بلا أرض. وأرض بلا نصر. حزب الله عندما ينتصر يجب أن يكون لبنان خاسراً. انها المعادلة التي عرفنا على امتداد «سطوة» الميليشيات في لبنان منذ التسعينات. ميليشيات تنتصر على بعضها، تهزم بعضها، وكل انتصار لها، خسارة للبنان. ذهب حزب سليماني إلى سوريا، وحده. لا حكومة. لا جمهورية. لا جيش. لا برلمان. دفاعاً عن نظام الأسد تحت يافطة مذهبية، غير «مغشوشة». متجاوزاً اعلان بعبدا، وتحذيرات له بخطورة تورطه، وباحتمال استجراره الحرب في سوريا إلى لبنان. فهو وحده. أوحد. وحداني. ولا شأن لأي لبناني لا بقراراته، ولا بمغامراته (سوى إيران طبعاً). ذاق الطعم المر في سوريا، لأنه ظن عندما ذهب إلى هناك، (برسالة جهادية)، وكأن الحرب في سوريا تشبه حربه على اللبنانيين في 7 أيار: انتصر على المحال المغلقة والناس العُزل، وعلى باعة الدجاج والبقلاوة والبندورة والمقاهي والمارة والمطاعم. نزهة «حزبية» قام بها الحزب إلى بيروت والجبل. حيث دفع ثمن نزهته. «النزهة الحربية»، في بيروت كانت من «السهل الممتنع». رفع «لُورداتُه» أصابعَ النصر. وهتفوا. انتصرنا على تل أبيب. فما اسهل الانتصار على تل أبيب في قلب بيروت. اكتشف حزب الله (حزب لو كنت أدري!) اكتشف بعد معاركه الجوية ان النزهة في «حرب» سوريا أمر آخر. ذاق الطعم. وتكبّد مئات القتلى وآلاف الجرحى، وها هو اليوم في قاع المستنقع. فهو منسجم مع نفسه، ومع صانعيه ومفبركيه أي ولاية الفقيه، وهي ولايته. والفقيه فقيهه. وجيشها جيشه. ونيروزها نيروزه. وزرادشتها زرادشته. لكن ها هي النيران التي تسبب اشتراكه في حرب سوريا تندلع في لبنان. جاء من يحاربهم هناك، إلى داره، وجماهيريته متفجرات وسيارات مفخخة. ثم وصلت النيران إلى البلاد كلها. داعش عندنا. (رحّب بها حزب محتشمي عندما جانبت محاربة النظام السوري وميليشياته وركزت على ضرب الجيش الحر). ثم انقلب فرانكشتين على مخترعه فقتله وفصفصه. فرنكشتين (أو شاكر العبسي مُكبّراً ومُضخّماً) دق الأبواب. والنوافذ وبات في القلمون (ألم يحتفلوا عندنا بانتصارهم في القلمون والقصير؟ فيا للانتصار الذي بعمر الورود المحترقة).
ثم في عرسال. آه عرسال! داعش والنصرة في عرسال. وغداً ربما قرب الضاحية. أو بيروت. أو الجبل. أو الجنوب (أو لم يصل الجيش الحر إلى تخوم الجولان؟). مع هذا لم يرعوِ الحزب. أغار داعش والثورة على عرسال التي أثقلها الحزب بالاتهامات التكفيرية والارهابية وهي أشرف منه. وخطف الاثنان داعش والنصرة جنوداً من الجيش اللبناني وقوى الأمن ولم يرعوِ الحزب وعندما تصدى الجيش والأهالي لداعش، وفي عز هجومهم على عرسال حاصر الحزب هذه المنطقة ومنع وصول المساعدات الطبية لها. انه الجيش «عدوه الأول». وعلى الرغم من كل شيء، فقد احتل الجيش الصورة الأمامية. أف! «ومن» قال ان هناك جيشاً في لبنان ليسرق مني أضواء «المقاومة» والمجاهدة. أو لم يكن «بالنسبة إلي (يقول الحزب) افتراضاً، أو كشافة، أو في أفضل الأحوال رديفاً من روافدي؟ فليُشوَّه هذا الجيش. ويُسوّد صيته. وتُحرق أسلحتُه وأوراقه وتُهدر دماء جنوده. حزب الله جنود في جيش ولاية الفقيه. أهناك جيش في لبنان يناقش جيش ولاية الفقيه؟ معاذ الله. أزفت الفرصة النارية، فلُندرجه ضمن الخطوط الحمر (أو لم يفعل الأمر ذاته في نهر البارد!). وها هو العالم العربي والمجتمع الدولي والأممي يتسابق على دعم الجيش الذي انخرط في حربه ضد الإرهاب. ثلاثة مليارات أولى . ثم مليار من السعودية لمؤازرته. و70 بالمئة من الشعب اللبناني يلتف حول الجيش. «أفّ» «يا خرابي» قالها الحزب. ووجد حزب «الفتنة الكبرى» مناسبة خطف الجنود وقوى الأمن من داعش والنصرة، ليركز حملته على الجيش، وعلى كل من قدم له العون (السعودية، الإمارات، الكويت، فرنسا، الولايات المتحدة…). ولم يعد في باله وبلباله سوى التحريض عليه.
قمة التحريض تمثلت برفض حزب محتشمي التفاوض مع الخاطفين، فلتَهِّبّ الفتنة . اتتفاوضون مع الإرهاب؟ لا! وألف لا! انه استجرار له، وتواطؤ معه. تفاوض ومقايضة. لا! لا! (استبدل عبارة تبادل بمقايضة). وأين «هيبة الدولة» وأين كرامة الشعب. حزب محتشمي استفاقت في مخوخه المجوفة فجأة، وفي «مشاعره» المكلّسة، غيرته على الدولة! نرفض التفاوض مع الإرهاب. (نسي انه من قامات الإرهاب السامقة!). وأصاب ذاكرته «المثقوبة أصلاً، النسيان. نسي تفاوضه لإطلاق مخطوفي أعزاز. والراهبات. نسي المقايضة، نسي مقايضة الحجاج الإيرانيين بسجناء في سوريا: «لا!»
وها نحن، بما اننا فوق الجميع، فيحق لنا ما لا يحق لسوانا. نحن مقاومة الصوت الشرعي الوحيد! وللمقاومة منطقها الخاص. وعبقريتها الخاصة. لا مفاوضات. لا مقايضات. أما الجنود المخطوفون فليعودوا في نعوش الينا «شهداء»! تماماً كما يعود مقاتلونا في نعوش وتوابيت وشهداء أيضاً دفاعاً عن نظام البعث ونزولاً عند إملاءات نظام الملالي! فمن يقضي في معركة من أجل البعث، وإيران فهو شهيد تنتظره الجنة، وتهتف له الملائكة. إذاً، يريد الحزب أن يدق إسفيناً بين الجيش (والجيش)، وبين عرسال. لماذا لم يدمر هذا الجيش عرسال. (كما دمرنا عبرا؟! ولو!). ولماذا لم يؤدِ دفاعه عنها إلى تهجير أهلها! (كما شاركنا في تهجير الشعب السوري). ولماذا لم «يستشعر» الجيش هجوم الارهابيين قبل هجومهم. فلنفتح تحقيقاً. افتحوا تحقيقاً. حاكموا الجيش. (والصحف التي تبنّت هذا التحقيق واعلنته هي التي سكتت بجبن عن ضحايا الكيماوي والبراميل المتفجرة وجرائم النظام السوري وحزب الله).
حاكموا الجيش لتظهروا انه غير مؤهل، لا للدفاع عن لبنان، ولا لمحاربة الارهاب. (هذا ما حاولوا فعله في نهر البارد!) والبديل نحن. وبما أن الشعب التف حول الجيش والجيش «تواطأ» أو عجز أو تباطأ فلتكن المعادلة البديلة «حزب الله» ، المقاومة، «الممانعة». بدلاً من ثلاثية «الشعب، الجيش، المقاومة»! وهكذا نظهر لأميركا وللغرب ولكل من يريد أن يدعم هذه المؤسسة العسكرية بأنها فاشلة! نحن أهلوها! وإمعاناً في تهشيم صورة الجيش (بالتآزر مع الاعلام المرتزق المقرف!) ها هو حزب الفتنة يعمق انخراطه في اثارتها حتى وصلت إلى النازحين السوريين أنفسهم. خطف على الهوية. وتعذيب على الهوية. وقتل على الهوية. وأفلتَ الحزبُ «زغاليلَه» الاعلامية وصبيته وغلمانه ليحرضوا على الخطف المذهبي. من عرسال إلى بريتال، إلى سعدنايل والبقاع. عودة إلى السبت الأسود في السبعينات! ربما اخطر! حزب «الأسباط» السُود، يريد أن يكرر السبت الأسود (سقط أكثر من 300 ضحية بحملات مذهبية في بيروت وأبعد منها، أيام الميليشيات التي ورثها الحزب الالهي).
استفرسوا النازحين الفقراء العُزل (وهم اعتادوا الاعتداء على العُزل بجبن كله شجاعة وبسالة: جبن البسالة، وبسالة الجبن. وعلى الهوية. وتحولت المناطق التي يهيمنون عليها ساحة مذهبية خالصة، كشر الحزب فيها بقوة وبشراسة عن مذهبيته الشرهة السافرة. كأنه يعلن فتنة مزدوجة: بارتكاب جرائم ضد النازحين، وبالتحريض على سعدنايل وعرسال! فليشتعل كل لبنان؟ وليعد إلى زمن الحروب الشاملة. وهنا سيكون قضاء كامل على ما تبقى من روابط الناس، والجغرافيا والتاريخ… وتنتصر الكانتونات. الحزب «المُكنتن» يحلم بكنتنة لبنان وكل العالم العربي والإسلامي فلا هم له مصير العسكريين وقوى الأمن… ولا آلام أهاليهم وانتظاراتهم، ولا مخاوف اللبنانيين. لكن بوعي أو من دون وعي، فقد فاقم بذلك «عزلة» الطائفة الشيعية الكبيرة، تلك التي عرفت على امتداد تاريخها بالانفتاح والعروبة والتنوير وحشرها في مربعاته الأمنية لكي تختنق فيها كل ارادة بالاحتجاج على جنونه، وعلى عمالته وعلى قهره وأضاليله. ومن يظن أن حزب محتشمي مهتم كثيراً بأرواح الشيعة (أو اللبنانيين طبعاً) فهو مسكين. باع دم شبابهم النضر الغض (بعضهم في الخامسة عشرة!) لإيران. أولم يبع قبله كل زعيم ميليشيا (منذ السبعينات) دم شباب طائفته تحت مسميات مضللة، لهذا النظام العربي، أو ذاك، أو لاسرائيل. التقليد تعمق عند حزب التسطيح. وهل من ساءل قادة الحزب عن دماء الشباب الشيعي التي أهدرها خدمة لإيران في سوريا. أإلى هذه الدرجة يسترخص الحزب دم من يرى انه يمثلهم، ويدافع عن مقاماتهم وظلمهم التاريخي! فكل شاب في كانتونات الحزب هو «شهيد» مقبل. لا دفاعاً عن الجنوب (فالجنوب بعد حرب تموز صار قرين الجولان، عش طيور ودجاج هادئ) ممنوع على احد تعكير صفوه ولو بنقافة أو برصاصة مطاطية أو بصوت عالٍ!
وعندما نرى أن اهالي المخطوفين نصبوا الخيم في ساحة الشهدا واعتصموا هناك ألا يذكرنا هذا المشهد المأسوي بمشهد أهالي المفقودين اللبنانيين في سجون النظام السوري منذ أكثر من 40 عاماً! فلمَ لا ينضم هؤلاء إلى هؤلاء: أهالي المخطوفين العسكريين من داعش والنصرة إلى أهالي المفقودين في سجون نظام الكيماوي؟
المشهدان أليفان (وقد تنتظرنا بفضل عمالة الحزب مشاهد أخرى مماثلة!) شقيقان (وكل جريح للجريح نسيب).
هؤلاء «المنتظرون» بيأس منذ 40 عاماً اخباراً عن أبنائهم، وهؤلاء المنتظرون بأمل عودة ابنائهم العسكريين المخطوفين، في جرح واحد يمحو المسافات الزمنية وحتى المكانية فيكون ترميزاً للشعبين اللبناني والسوري.
حزب الله لا يعرف العواطف! ولا «الضعف» البشري. فقلوبهم من مطاط الهي. وعروقهم من فولاذ. وعقولهم من اسمنت مصبوب وأصابعهم حِراب. فالذين لا يشغل بالهم الـ15 ألف لبناني المفقودين في معتقلات حليفهم المفدى، أيشغل بالهم مصير العسكريين المنتمين إلى جيش بات على مرمى عدوانهم؟ فالمفقودون من السبعينات خطفوا لإثارة الفتنة المذهبية (وبعث دمشق خبير بتحريك نيرانها)، وحزب الله يسعى إلى عدم عودة هؤلاء العسكريين لتحريك نيران الفتنة. لكن فات الحزب ان هناك شعباً ما زال واقفاً وصامداً في لبنان يعطل كل مكائده، وغلوّه (المستعار) وتطرّفه وسلفيته الفارسية وارهابه، وفتنته المتنقلة. وهذا ما فعله اهالي عرسال وسعدنايل… الذين استقبلوا جثث ابنائهم صارخين بوجه حزب الفتنة: لا للفتنة. الدولة ملاذنا. الجيش ملاذنا. قوى الأمن ملاذنا! إنها الأصوات الأصلية المرتفعة في وجوه أهل المؤامرات المستعارة!
وما دام هذا الشعب يقظاً، محترساً، مُحترزاً، فسترتد فتن حزب الملالي إلى نحوره!