كلما التقيت بأصدقاء وزملاء فلسطينيين في عمان أو غيرها، افترقنا على موعد نعلم انه لن يأتي فنقول «انشالله المرة الجايي بالقدس»، ونكون قد قضينا جل اللقاء في أخبار عن المدينة وأهلها من قبلهم وتخيلات وأمنيات من قبلي. وهو، للمفارقة، الحديث نفسه الذي يدور اليوم بشان دمشق. وإذ لا أزعم احتكار هذه الرغبة الراسخة لدي منذ الطفولة، أعلم يقيناً أنني أتشاطرها مع الغالبية العظمى من أبناء جيلي في البلدان العربية، لا سيما هؤلاء الممنوعين من الزيارة مثلي… وربما أكثر منهم جمهور «الممانعين» ممن أختلف معهم في الخيارات السياسية وطرق تحقيق أهدافها ولا يفصحون عن تلك الرغبة. ذاك أنه يبقى للقدس حيز عاطفي في وجداننا ومكانة كبيرة (ثقيلة أحياناً) في نشأتنا الاجتماعية والسياسية جعلت لكل منا قصته الصغيرة المتخيلة معها.
والى ذلك، فأنا اعلم أيضاً كما غيري، أن هذا المزاج السياسي والدفق الشعوري لا يشاطرني اياه «اليمين المسيحي» أو تحديداً الموارنة، الذين يزمع البطريرك بشارة الراعي زيارة القدس باسمهم… ولا ملامة! فالمدينة أفرغت منذ زمن طويل من مضمونها الديني والتاريخي بالنسبة اليهم وارتبطت بالشق السياسي الذي جعلها بعبعاً يعبر جونية مكسّراً مدمراً.
والواقع ان الزيارة البطريركية تلك سواء حدثت ام لم تحدث، انما فتحت كوة في رؤوسنا كما في جدار «التطبيع» الذي بنيناه على مدى عقود ودعمناه بإسمنت مسلح، حتى أبعد فلسطين وناسها عنا أكثر مما فعل جدار الفصل العنصري الذي بنته اسرائيل. هكذا قطع الاخير اوصال المدن والبلدات، فيما كتم الاول الصوت في صدورنا.
ومن التساؤلات التي يحق لنا طرحها على البطريرك الراعي، وهو المعروف عنه موقفه السياسي الواضح وانحيازه تجاه فريق لبناني على حساب آخر، وتأييده النظام السوري بصفته حامي الاقليات، كيف تجرأ على كسر «تابو» التطبيع والمجاهرة بتلك الرغبة الدفينة فينا وبالكاد نجرؤ على البوح بها، ثم الإقدام على تحقيقها، من دون غطاء سياسي أو أقله ضمانات أمنية؟ فإذا كان صحيحاً أن رأس الكنيسة المارونية في لبنان، يحصر الزيارة في الشق الديني، فهو بمعنى ما يدفع أبناء طائفته الى مواقف لا يملكون الدفاع عنها. فهم إن باركوا الزيارة من منطلقها الديني المزعوم، تعرضوا لتخوين مزدوج. من جهة «قبلتهم» في الديانة هي الفاتيكان وليس القدس التي أصبحت بفعل الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي قضية العرب والمسلمين وعاصمتهم المعنوية، ومن جهة ثانية، يثبتون التهمة الملصقة بهم بالانحياز لاسرائيل وقابليتهم للتطبيع معها على حساب قضية محقة لشعب سلبت أرضه.
أما إذا رفضوا الزيارة، فدخلوا في أدبيات «الممانعة» والمزايدة التي لا تعبر حقيقة عنهم ولا تعكس واقع حالهم. ولعله من سخرية الأقدار أن يكون المدافعون عن البطريرك في تلك الخطوة خصومه السياسيين، فيما أشرس معارضيه حلفاؤه في الممانعة.
وأما إذا كانت أسباب الزيارة سياسية (وفق ما يراها البطريرك)، فهو لا شك أخذ المسيحيين خطوة أبعد في ربطهم بمحيطهم وتثبيت أقدامهم في الشرق، «شرقهم»، وتاكيد تمسكهم بإرثهم الديني وأسبقيتهم التاريخية في القدس وأحقيتهم بها… حتى كاد يقنعهم، كما اقتنع هو ربما، بأن طريق القدس تمر بدمشق. أليست الأخيرة عاصمة الاقليات في المنطقة وحاميتها؟ وعليه، يبقى على الاقليات تلك أن تثبت بدورها تمسكها بالثوابت وأولها القضية الفلسطينية.
والحال إنه تكفي مطالعة سريعة للمواقف المتباينة وحملات الدفاع أو الهجوم للزيارة البطريركية الى القدس ليظهر الكم الهائل من الخطابية والحجج المشابهة من كلا الطرفين. فالرافضون للزيارة يرون فيها تطبيعاً صريحاً مع العدو الاسرائيلي، والمؤيديون لها يرونها رفضاً لتهويد المدينة وتكريساً لتنوعها الديني والحضاري. كأن المسيحيين اللبنانيين دخلوا فجأة على خط المساجلة والنزاع على هوية مدينة منسية لديهم منذ عقود مستعينين بأدبيات ومصطلحات سياسية لم يألفوها يوماً، وذلك للدفاع عن موقف ظاهره ديني زجهم فيه البطريرك… فها هم اليوم غاضبون أشد الغضب من «تهويد القدس» وليست زيارة زعيمهم الديني لها إلا «رفضاً صريحاً لسلبهم حقهم وحق إخوانهم المسلمين في المدينة المقدسة»، حتى يخيل اليك أنك ستسمعهم قريباً يهتفون في شوارع بيروت «القدس لنا، القدس لنا»، علماً أنهم لم يرفعوا ذلك المطلب يوم زارهم بابا الفاتيكان…
وقد تكون تلك الحجة مقنعة إن صدرت عن مسيحي فلسطيني بقي في أرضه وبيته ودكانه في السوق العتيق، مقاوماً كل محاولات طرده. أما أن تصدر عن سلطة دينية عليا منحازة سياسياً في بلد كلبنان، فهي لا تعدو كونها ركلة للمسيحيين تعيدهم الى موقعهم الاقلوي على الخريطة السياسية والجغرافية في هذا الشرق وتطبع بدورها مع سلطة جائرة تزعم حمايتهم.
فإذا كان البطريرك حريصاً فعلاً كما يقول على القدس والقضية الفلسطينية والمسيحيين عموماً في هذه البقعة من العالم، فليذهب رافعاً راية سياسية واضحة، تعيد تصويب النقاش العام وتسمح بكسر جملة من المحرمات في حب فلسطين والدفاع عنها مما كرسته ثقافة «الممانعة» جيلاً بعد جيل. فليذهب مطالباً بحق عودة صريح للفلسطينيين من دون التذرع به لحرمانهم من حقوقهم الانسانية والمدنية في مخيماتنا، وليذهب معتذراً لهم باسمنا عن سكوته عن قرار يمنعهم من دخول مطار بيروت هرباً من موت محتم في دمشق… وليطالب لنا نحن أيضاً، من نحب القدس ونهجس بها، بهذا الامتياز الذي يملكه بزيارة المدينة فنذهب اليها بالملايين.