IMLebanon

  البغدادي على طريق «البعث»

يبدو النداء الذي وجهه «الخليفة» البغدادي الى المسلمين خارجاً عن السياق الذي تنحو اليه الدول العربية التي يفترض انه يخاطب مواطنيها. فهو يدعوهم الى «دولة الخلافة» التي تعني في نظره الوحدة والتجانس ورفع الحواجز وإزالة الحدود، فيما هم ذاهبون في معظمهم الى الافتراق والتباعد، بعدما فشلت محاولات صهرهم في دول مركزية اثبتت الأحزاب والحركات التي هيمنت عليها، وبعضها اسلامي، انها لم تدرك التمايزات بين فئات جمهورها، او رفضت الاعتراف بها، ولم تستوعب التباينات في مجتمعاتها، او حاولت وضع علاجات قسرية لها كي تحافظ على وحدتها الشكلية، فأوصلتها الى خيار وحيد هو الانفصال عندما اتيحت لها الفرصة.

وحين يقول البغدادي ان «سورية ليست للسوريين والعراق ليس للعراقيين» انما يستعيد في قالب ديني اللغة السياسية لحزب «البعث» والأحزاب القومية الأخرى التي باءت تجاربها القائمة على فكرة تخطي «الحدود الاستعمارية» بالفشل الذريع، وأنتجت حروباً ومآسي وانقلابات دموية وأنظمة مستبدة لا تفترق كثيراً عن «داعش» في معاملة المختلفين معها وسومهم صنوف الترهيب.

انتهت تجربة الأحزاب القومية في العالم العربي الى قيام ديكتاتوريات ترى التنوع ضعفاً والتعدد تقسيماً والاختلاف خيانة، ولا تجد غير اجهزة الأمن وما يتفرع عن انشطتها من سجن وتعذيب وقتل وإبعاد وإخفاء، وسيلة لتطويع من يتجرأ على المجاهرة بمفهوم يناقض مفهومها لمعنى المواطنة والانتماء والحكم وتداوله.

ولو اخذنا ما يجري في ليبيا مثالاً لرأينا كيف ان زوال الحكم العسكري المخابراتي الذي بناه القذافي على مدى عقود، كشف عن البون الشاسع بين شعارات الحاكم وبين واقع المحكومين. لا يعني هذا ان المشكلة في الليبيين، بل ان النظام الذي هيمن عليهم طويلاً لم يبذل اي جهد حقيقي لتطوير مفهوم المواطنة لديهم، بل انزل عليهم عسفاً، من فوق، صيغاً عن الوحدة والانتماء، تبين انها كانت محدودة التأثير لتجاهلها ما يرغبون هم في ان يكون الرابط بينهم. ولهذا عادت فجأة الى السطح نزاعاتهم المناطقية والقبلية والعائلية بمجرد ان رفع الغطاء القمعي الثقيل عنها.

وهناك مثال آخر في اليمن الذي ادركت قواه السياسية بعد الانتفاضة على نظام علي صالح ان الحل الأمثل لانتشاله من الاحتراب الداخلي يكمن في صوغ نظام فيديرالي يتيح اشكالاً من الحكم الذاتي للأقاليم، وخصوصاً في الجنوب الذي عانى سكانه من وحدة قسرية فرضت بقوة السلاح.

والأمر نفسه ينسحب على العراق المنقسم طائفياً وعرقياً بعدما تبين ان النظام «البعثي» لم يوفر لشعبه سوى وحدة صُورية سرعان ما تصدعت بعد انهياره. وهي الحال ذاتها في سورية «البعثية» التي تحكمها اقلية طائفية منذ السبعينات بموجب شعار «الوحدة والحرية والاشتراكية» الذي كشفت الحرب الأهلية المحتدمة زيفه وعرّته من اي صدقية. وهناك ايضاً السودان الذي انشطر بلدين، ولبنان الذي يعطل الانقسام بين مكوناته مؤسساته الدستورية.

فإذا ما قيض لـ «دولة» البغدادي المفترضة ان تعيش ردحاً، وهي على الأرجح لن تعيش لافتقادها الكثير من المقومات، ولاجتماع العديد من القوى الإقليمية والدولية ضدها لما تراه فيها من سمات العنف والقهر «الطالبانية»، فلن تكون مختلفة عن جمهوريتي «البعث» العراقية والسورية ولا عن «جماهيرية» القذافي ولا عن «الحكم الإسلامي» في السودان، لجهة سوق رعاياها الى «الوحدة» سوقاً. وما القتل الجماعي واحتلال الكنائس في الموصل ورفع اعلام «داعش» عليها الا عينة مما ينتظرهم.