في الايام القليلة الماضية تعمّد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط ان يطل مرات عدة عبر الفضائيات وعبر وسائل الاعلام المكتوبة، ذلك ان زعيم المختارة يتقن لعبة الاحتجاب والاطلالة عبر وسائل الاعلام ويعرف متى ينتهج الصمت موقفاً ومتى يفتح حنفية الكلام على آخرها. باختصار جنبلاط في رأي دوائر القراءة والتحليل في قوى 8 آذار، اراد عبر هذا الاكثار من الظهور الاعلامي ان يبعث لخصومه واصدقائه في آن رسالة تنطوي على اكثر من معنى وتهدف الى اكثر من غرض ومقصد يتصل باللحظة السياسية. لا تخفي الاوساط عينها انها ترصد بدقة النبرة العالية التي برزت فجأة في الخطاب الجنبلاطي و”تدرجات” هذا الخطاب، وقد وصلت الى الاستنتاجات الآتية: – ان رئيس التقدمي وزع مقابلاته ومواقفه على محطات تلفزيونية منوعة داخلية وخارجية بحيث انه شاء ان يكون صوته مسموعاً في اكثر من مكان ويصل الى اقصى مدى. – ان رسائل جنبلاط الاخيرة انطوت على محاور عدة: – عدم الأخذ بمصطلح الرئيس القوي الذي رفعته اطراف عدة مسيحية. – رفض صريح وشفاف لأربعة اسماء قوية مرشحة لبلوغ قصر بعبدا، وهي اولا العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع ثم لاحقاً قائد الجيش العماد جان قهوجي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وعليه بدا جلياً ان جنبلاط عمل في الآونة الاخيرة على موجتين: الاولى الحفاوة الزائدة والاشادة المبالغ فيها بالرئيس السابق ميشال سليمان والتقليل من اهمية شعار الرئيس القوي مشفوعاً بترشيح النائب هنري حلو، وبممانعة جلية لانتخاب واحد من هؤلاء الاربعة الذين يمكن ان يدرجوا في خانة الرؤساء الاقوياء. وبالاستنتاج ان جنبلاط يبلغ من يعنيهم الأمر رسالة فحواها ان النموذج المفضل للرئيس المقبل هو الرئيس الذي غادر قصر بعبدا قبل اقل من شهر لأسباب واعتبارات عدة مصلحية وسياسية، علماً بأن جنبلاط كان من السباقين في رفع شعار الاعتراض على رئيس عسكري. فضلا عن ذلك، أن مرحلة الانسجام المديدة بين سليمان وجنبلاط حفزت الاخير لاطلاق اوصاف ونعوت على الرئيس السابق جعلته في مصاف الرؤساء التاريخيين. اما على وجه آخر فقد انطوى الخطاب الجنبلاطي على سلسلة مواقف في اتجاه “حزب الله” جلها قديم، الا ان ثمة اهدافا عدة لدى جنبلاط دفعته الى اعادة اطلاقها واحيائها. الاعتراض على انخراط الحزب في الميدان السوري ليس مستجداً بطبيعة الحال، فهو يعود الى اكثر من سنة، لكن اللافت ان جنبلاط يعود اليه بعدما سكت عنه طويلا، في لحظة سياسية ذات معنى يدركه الحزب ويدركه هو ويدركه ايضا النظام السوري، واللحظة السياسية هذه هي اعتبار قائد الحزب ودمشق مشهد الانتخابات الرئاسية في سوريا احدى محطات الانتصار لهما معاً. لذا فالحزب يعرف ان “هجوم” جنبلاط على دخوله الميدان السوري رسالة تتعدى هذه المسألة وتستبطن اهدافا اخرى تتصل بملف الرئاسة الاولى وبقضايا اخرى، منها ادراكه العميق أن “حزب الله” لا يناور اطلاقاً في دعم وصول العماد عون الى الرئاسة الاولى وان الحزب لم يعد في وارد القبول بتجربة مماثلة لتجربة الرئيس سليمان. لكن الحزب في المقابل، قابل بشكل أو بآخر بعلاقته المركبة الى درجة التعقيد مع جنبلاط ويعرف حدود الممكن وحدود اللاممكن في هذه العلاقة. فهو كما جنبلاط نفسه يريد لها أن تستمر، لذا فهو يتقبل الكلام الجنبلاطي العالي النبرة حيال الحزب وادائه وسلوكه، ولكن بطبيعة الحال يظل مقيماً على هاجس وخشية من ان يشطح جنبلاط في خطابه الى حدود أبعد، فتكون بداية مرحلة جديدة وعلى غرار ما حصل مع سليمان لحظة اطلق ما صار يعرف “بالمعادلة الخشبية”. جنبلاط يفهم هذه الحدود الشفافة والهشة، لذا فهو تعمد أن يقرن كل نقد مبطن أو معلن للحزب بالقول انه يحافظ على قنوات التواصل بينه وبين السيد نصرالله الذي تعمد جنبلاط وصفه “بالرئيس القوي” وهو نعت توقفت عنده قيادة الحزب ملياً محاولة سبر غوره، لا سيما مع ادراكها ان جنبلاط ليس ممن يلقي الكلام والمواقف على عواهنها خصوصاً عندما يتعلق الامر بعلاقته بالآخرين. وفي كل الاحوال فإن في اوساط “حزب الله” من بات متخصصاً بمواقف جنبلاط وبتقلبات خطابه، لذا فهو وصل الى استنتاج فحواه الآتي: – ان جنبلاط اعتاد اعلاء نبرته الصوتية، واحياء ما يمكن ان يسمى “خطوط تماس” مع الآخرين في لحظات يستشعر هو فيها ان الآخر في موقف متطور، ويعيش شعور حصد المكاسب وجمع أوراق القوة بيديه، والمعلوم ان الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله اختار في خطاباته الستّة الاخيرة الإفصاح عن هذا الشعور، وكان جنبلاط ايضاً صريحاً عندما تحدث عن انتصارين للنظامين الايراني والسوري وسيطرة الاول على كل من لبنان وسوريا. – ان جنبلاط اعتاد ان يعلي نبرة صوته الى أقصى الحدود عندما يستشعر الخطر أو التجاوز، وهو يتوسل هذا النهج لاقامة سياج حماية ووقاية وبعث الرسائل المشفرة. – وجنبلاط في عرف أولئك المستنتجين بلغ هذه المرحلة، لا سيما انه متوجس ايضاً من مآل الحوار المتوالي فصولاً بين الرئيس سعد الحريري من جهة والعماد ميشال عون من جهة أخرى رغم علمه بأنه حوار من النوع الصعب والمعقد.