تثير كثافة الوجود السوري في لبنان، الذي قارب ربع تعداد سكّانه، مسألة العلاقات بين الشّعبين أو بين نموذجين من الشخصية الوطنيّة. ولا تنحصر المسألة بسلوك بعض اللبنانيين الموصوف بالعنصري، بل تتعدّاها إلى ما يمكن اعتباره الجذر التاريخيّ للمسألة، وهو تلازم عُقدتي التفوّق والدونيّة في سيكولوجيّة كلّ من الشعبين ونظرته إلى الآخر. فقبل الثورة، كانت الحريّات السياسيّة وارتفاع مستوى التعليم، إضافة إلى الكوزموبوليتيّة وتعدّد اللّغات والغَربَنة وغيرها مسائل تثير في السّوري العادي إحساساً بالدونيّة والنّقص، بينما كان اللبناني يدرك هذه الحساسيّة ويمعن في استثمارها مؤكّداً عُقدة التّفوّق المُزمنة لديه، وكَردّ فعل غير مباشر على الهيمنة السياسيّة السورية المديدة على بلاده.
وربّما جاز القول بوجود نوعين من الحساسيّة في العلاقة بين الطرفين. فحساسيّة السوري تجاه اللبناني يغلب عليها الثقافي والاجتماعي، بينما حساسيّة اللبناني تجاه السّوري من النوع السياسي في الغالب.
والأرجح أنّ هذه الحساسية سابقة على تلك الأولى، وتعود إلى زمن الانتداب الفرنسي. ذاك أنّ تأخّر الوطنيين السورييّن في الاعتراف بنهائيّة الكيان اللبناني، وتهديدهم المباشر والموارب بإثارة مسألة الأقضية الأربعة التي ألحقها الفرنسيون بلبنان الكبير، فضلاً عن ولاء قسم كبير من الزعماء اللبنانيين وبخاصّة المسلمين منهم لدمشق، كلّها تركت آثاراً في الوعي السياسي لدى اللبنانيين، الذين كانوا يرون في دمشق عاصمة مركزيّة قويّة لا تحتاج إلى حماية، بعكس بيروت التي شعر مسيحيّوها بالأخصّ بأنّها ضعيفة ومهدّدة بعد انسحاب الحُماة الفرنسيّين.
وفي هذا المعنى، يجوز القول بأنّ السوريين يومها كانوا يثيرون إحساساً بالدونيّة السياسيّة لدى بعض اللبنانيّين، والأمثلة كثيرة. فليس بلا دلالة أن يتأخّر بشارة الخوري في الإعلان عن نيّته التمديد لولايته إلى أن أعلن شكري القوتلي عن رغبته بإعادة انتخابه. وليس بلا دلالة أيضاً تحامُل بعض المؤرّخين اللبنانيين على خالد العظم بعد قراره الانفصال الجمركي بين البلدين، والذي كان على الأرجح القرار الذي ثبّتَ وضعيّة لبنان ككيان مستقل.
وبإضافة الخبرة النفسيّة الناجمة عن تسلّط نظام البعث على لبنان، يمكن القول بأنّ إحساسَي الدونيّة والتفوّق كانا يتبادلان التّموضع في شخصية كلّ من الشّعبين.
والحال أن ما تقدّم يفسّر سلوك الطرفين اليوم. عنصرية بعض اللبنانيين وتضييقهم على السوريين، فضلاً عن مبالغة سوريّي الثورة في شكواهم من اللبنانيين. ذاك أنّ قسماً كبيراً من أولئك يشعرون بأنّهم قدّموا للمتعاطفين اللبنانيين معهم قضيّة سامية ينخرطون فيها، وهذا ما نجده في انبهار بعض الزملاء اللبنانيين ببعض الشخصيات والرموز الذين ساعدوا على صناعتهم وتقديمهم للعالم كأيقونات سوريّة. فظنّ هؤلاء أنّ هذا يمنحهم الحقّ بأن يكونوا رقباء على كلّ اللبنانيين، مُطالبين بألا يعلو صوتهم فوق صوت قضيّتهم، مُتجاهلين أنّهم أيضاً جزء من قضيّتنا وقد سبق لهم أن عانوا، وما زالوا، من الاستبداد السّوري، وينامون اليوم وبينهم لبنانيون آخرون يشاركون في المذبحة السورية… وأنّهم، وهذا ما يعجبنا فيهم، أحبّوا الحياة وأقبلوا عليها أكثرَ منّا.
* كاتب وصحافي سوري