تحوّل الملف المطلبي المحق للأساتذة من مطلب معيشي ملحّ لمادة سياسية تجاذبية، يستثمرها فريق ويعرقلها آخر، وتعلو بعض الأصوات العقلانية داعية للتمهل والتبصر قبل إقرار السلسلة بشكل عشوائي يقضي على البقية الباقية من اقتصاد الوطن المُنهك، وانتقلت القضية التي استحوذت على إجماع وطني حول أحقيتها إلى مادة خلافية، تبناها فريق ودفَعَ بها إلى أقصى حدود المخاطرات الاقتصادية، إلى قضية خلافية يشدّ بها الطرفان وهي عالقة في معضلة النصاب وغيابه، والتوافق المفقود، والقرار الرسمي المُقزّم بشكل ممنهج!
فعن أي توافق يتحدث البعض ويربط مصير انتخاب الرئيس وإقرار السلسلة وما إلى هنالك من قرارات مصيرية تحدد مستقبل الجمهورية؟
لقد بلغت الطبقة السياسية وقاحة غير مسبوقة في ظل غياب المحاسبة الشعبية والقانونية على حدّ سواء، فبات توافق المصالح هو الحل وخشبة الخلاص من الفراغ القاتل الذي أحرجت الوطن فيه، وفتح باب المزاد للعلن، فلكل حرية اتخاذ الرهائن لتحقيق المآرب كما يحلو له، ففريق 8 آذار أخذ النصاب ومعه الجمهورية رهينة لإيصال مرشحه للسدّة، وفتح المجال أمام هيئة التنسيق وغيرها لتحذو حذوه مع الطلاب وامتحاناتهم ومصير سنة دراسية كاملة لما يزيد عن المئة ألف طالب، يسعى الكثير منهم، حتى لا نقول معظمهم للالتحاق بجامعات الخارج هرباً من واقع بلد متخلف وسقيم، حيث المؤتمنون على مصيرهم الأكاديمي يمارسون لعبة الضغط ، بغض النظر عن صوابية مطالبهم والدعم الشعبي لها، إلا أنه لا يوجد من مبرّر ليدفع الطلاب ثمن شدّ الحبال الحاصل، وتحوّل المطلب المعيشي إلى كباش سياسي!
لقد تعددت التسميات والأهداف واحدة، دونما أن يتوهمن أحد أنه قادر على الاستخفاف بعقول اللبنانيين: فالتوافق على رئيس، بغض النظر عمّا يحلو للبعض توصيفه «بالقوي» أو «التوافقي»، إلا أن النوايا الحقيقية أن يفرض كل فريق مرشحه ويخرج خصمه «بالتوافق»، خدمة لمصالحه الداخلية وتحالفاته الخارجية وأجنداتها في لبنان.. وبعيداً كل البعد عن التوافق السليم حول رؤية وطنية موحدة في ظل عواصف إقليمية تهبّ من كل حدب وصوب باتت تحتم استيلاد المخارج لانتخاب رئيس وإنقاذ البلاد من الفراغ حفاظاً على دولة المؤسسات ووصولاً إلى قانون انتخابات حديث يُهيّئ الأرضية المناسبة للاستحقاق المقبل.
واللازمة نفسها تنسحب على إقرار السلسلة، حيث تحوّل البازار إلى سياسي بعيداً عن الدراسات الجدّية والمقاربات العلمية الضرورية لوضع خطة اقتصادية متكاملة تؤمن تمويل السلسلة من دون المس بالاستقرار النقدي أو مضاعفة التضخم، الذي سيبخر الزيادات قبل وصولها إلى جيوب مستحقيها، من دون إغفال ضرورة التوافق على وضع خطة وفاقية حقيقية لمكافحة الهدر والفساد الذي ينخر مؤسسات الوطن ويضعف هيكليتها بعد أن أضعفت السياسة أداءها.
إن جميع الأطراف مدعوون لتحمل مسؤولياتهم الوطنية عبر التوصّل لتوافق حقيقي حول مصلحة الوطن السياسية والاقتصادية والمعيشية، على أمل أن تمر هذه المرحلة الحرجة في تاريخ المنطقة بأقل أضرار ممكنة على لبنان، فتتكاتف الجهود للحفاظ على الاستقرار والأمن وإعادة تنشيط الدورة الاقتصادية وإعادة ثقة المستثمرين في الوطن الصغير.. والأهم إعادة تصويب معنى التوافق وممارساته!