ينعقد المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية يوم الأحد المقبل وسط انتقادات كثيرة لتقصير الجامعة في التحرك ضد العدوان الإسرائيلي على غزة. ففي الجزائر دعت لويزا حنون زعيمة حزب العمال إلى تعليق مشاركة الجزائر في اجتماعات الجامعة استنكاراً لتخلفها عن مناصرة غزة، بينما دعا الوزير السابق ومؤسس حزب الوفاء أحمد طالب الإبراهيمي، للأسباب ذاتها، إلى حل الجامعة واستبدالها بمؤسسة جديدة تكون أقرب إلى اتخاذ المواقف السليمة ضد العدوان على الفلسطينيين. وفي المشرق العربي تتردد دعوات كثيرة وانتقادات شديدة تخرج أحياناً عن المألوف وعن قواعد التخاطب السياسي.
لا تغرب هذه الأجواء عن المسؤولين عن الجامعة حيث إنها، في مجملها، ليست شيئاً طارئاً على مسرح السياسة العربية، إنما هي أقرب إلى أن تكون تقليداً يتوالى على حراسته لفيف واسع يضم أطرافاً متناقضين من الحريصين على فكرة التضامن العربي ومعارضيها في آن واحد. ورداً على هذه الانتقادات، أعلنت الأمانة العامة للجامعة أن جدول أعمال الاجتماع سيتطرق إلى قضيتين رئيسيتين: الأولى هي القضايا العربية الساخنة وفي مطلعها غزة إلى جانب مسائل الإرهاب وسورية وليبيا والسودان واليمن. والثانية هي ملف تطوير الجامعة.
العلاقة بين النوعين من القضايا تكاد تكون بدهية. فكيف تتمكن الجامعة من التنسيق بين الدول العربية وفي الدفاع عن حقوق العرب ومصالحهم في كل قضية من القضايا الساخنة، كما يقول ميثاقها، إذا لم تتمتع بصدقية عالية في المنطقة العربية وفي المجتمع الدولي؟ بالمقابل، كيف تحصل الجامعة على هذه الصدقية إذا لبثت قراراتها حبراً على ورق؟ هنا تأتي أهمية البند المتعلق بتطوير الجامعة المدرج على جدول أعمال المجلس الوزاري للجامعة. ومن هنا، تأتي أهمية النظر في ملف تطوير الجامعة بحيث تكون هي الإطار الطبيعي لأي تحرك دولي أو إقليمي ترتأيه الدول العربية، بغرض مناصرة القضايا العربية وتصحيح مسار السياسة العربية.
تحرياً للدقة نقول إنه لا بأس أن تصدر عن الجامعة البيانات والمواقف المتعاطفة مع قضية غزة أو مع القضايا العربية الأخرى. إن لهذه المواقف والبيانات والإعلانات أهمية رمزية لا ينبغي التقليل منها. ولكن في عصر أخذت فيه المنظمات الإقليمية تتحول إلى فاعل عالمي مؤثر، باتت الجامعة مطالبة بأكثر من مجرد الموقف الرمزي، ومن المرجح أن يهدف التطوير الذي تتوخاه الأمانة العامة للجامعة، والذي تضمنته مقترحات لجنة الإبراهيمي والاجتماعات التي تلتها، إلى تفعيل الجامعة لاعباً رئيسياً على مسرح الأحداث في المنطقة. ولن ينفع فلسطين كثيراً أن تتخذ الجامعة العربية موقفاً، مهما كان مضمونه، فيقابل بالإهمال من جانب الرأي العام ومن جانب النخب الحاكمة لأن الجامعة ليست فاعلاً مهماً على الصعيدين الإقليمي والعالمي. والعكس صحيح، أي أن قيمة المواقف التي تتخذها الجامعة من القضايا العربية لا تقاس بمضمونها فحسب، وإنما تقاس أيضاً بفاعلية الجامعة وبقدرتها على تحويل القرارات والمواقف إلى سياسات عملية وإجراءات واقعية مثل وقف الاستيطان الإسرائيلي وتسريع عملية تحرير الأراضي العربية في فلسطين وسورية ولبنان. في هذا السياق، أي من أجل تعزيز وضع الجامعة، فإن من المفيد لفت النظر إلى الملاحظتين الآتيتين:
أولاً، إن صدقية الجامعة تأتي، كما أشرنا أعلاه، من صلتها بالرأي العام ومن تواصلها مع القوى الناشطة بين أفراده ومن صناع الرأي فيه. وهذه الصلة تترسخ وتتوطد من خلال إشراك الرأي العام في مناقشة أوضاع الجامعة التي هي أساساً أوضاع العمل العربي المشترك والتنسيق بين الدول العربية. كذلك تترسخ هذه الصلة عبر إطلاع الرأي العام على الحلول والمقترحات الرامية إلى النهوض بأوضاع الجامعة، وتوفير المنابر والإطارات المناسبة لبحث هذه المقترحات بصورة جماعية وبمشاركة المعنيين بقضايا العلاقات العربية – العربية سواء كانوا مؤيدين لمؤسسات العمل العربي المشترك أم معارضين لها.
هذا النهج يدخل في صلب نشاطات المنظمات الإقليمية الأخرى في العالم. ففي إطار الاتحاد الأوروبي عرضت ما يقارب 14 معاهدة واتفاقية لتطوير الاتحاد وتنظيم أعماله على الاستفتاء العام قبل تنفيذها. إن الأوضاع العربية، بخاصة الراهنة، لا تسمح بتنفيذ مثل هذه الاستفتاءات، ولكنها لا تمنع من تنظيم مناقشات عامة يشارك فيها أصحاب الخبرة والمعرفة والاهتمام بالقضايا العربية وبالعلاقات العربية – العربية. بالمقابل، نجد أن الجامعة تناقش المقترحات التي تقدم إليها وكأنها من الأسرار الثمينة التي ينبغي الحيلولة دون اطلاع «الأعداء» عليها. فهل كان من سبب جدي يحول دون أن تعقد لجنة الإبراهيمي، عندما أنهت أعمالها وقدمت تقريرها النهائي إلى الأمانة العامة، مؤتمراً صحافياً تعلن فيه على الرأي العام الإصلاحات المقترحة؟ هل كان هناك من سبب جدي يحول دون أن توضع هذه المقترحات المهمة والمناقشات التي أعقبتها على موقع الجامعة الإلكتروني لكي يطلع عليها ويناقشها من يشاء؟ وهل كان هناك من مبرر حاسم يحول دون أن تطبع الجامعة العربية عشرات الآلاف من هذه المقترحات ومن الملاحظات التي أثارتها وأن توزعها على المعنيين والمهتمين؟ وأي ضرر يصيب مبادرة الجامعة لو استأثرت مقترحات تطويرها بالاهتمام العام علماً أننا نعيش عصر الشفافية والانفتاح؟
ثانياً، إن تعزيز صدقية الجامعة يحتاج إلى تعريف الرأي العام بإنجازاتها. إن جامعة الدول العربية في حاجة ماسة إلى قصص – أو حتى قصة – نجاح، فهل تملك الجامعة مثل هذه القصص؟ الانطباع العام هو أن الجامعة التي أعلن بروتكول الإسكندرية إنشاءها في 25 أيلول (سبتمبر) 1944، أي قبل سبعين عاماً تقريباً لا تملك أية قصة نجاح. ولكن هذا غير صحيح. ففي تقدير كل من الدكتورين مفيد شهاب وأحمد يوسف أحمد أن الجامعة لعبت دوراً مهماً وحاسماً في تحقيق الاستقلال السياسي للأقطار العربية، بخاصة سورية ولبنان. فضلاً عن ذلك فإن الجامعة، كما يقول الدكتوران شهاب وأحمد، اضطلعت بأدوار مهمة في إيجاد حلول للنزاع في حالات متعددة بين الدول العربية.
إن هذه النجاحات لا تذكر للجامعة. وأغلب الظن أن هذا الإغفال يعود إلى سببين رئيسيين: الأول هو أنه انقضى وقت على المرحلة الاستقلالية وجاءت أجيال عربية جديدة لا تعرف الكثير عن تلك المرحلة ولا تقدر أهميتها. فضلاً عن ذلك، فإن النظرة إلى الاستقلال اليوم هي غير النظرة إليه في الماضي. فنحن اليوم في عصر يحتفل فيه البعض في الدول العربية بذكرى احتلالها من جانب الجيوش الأجنبية، وبسط الانتداب الأجنبي عليها، وفي عصر تعلق فيه الآمال على التدخل العسكري الأجنبي. فلم يعد من الغريب ألا يعتبر دعم الاستقلال إنجازاً يستحق الذكر. السبب الثاني لإغفال إنجازات الجامعة هو ضعف الذاكرة المؤسسية لديها، ذلك أن الجامعة نفسها والإدارات المختصة فيها لا تتوقف أمام هذه المسألة ولا تفتش عن الإنجازات في تاريخ الجامعة ولا تعممها على الرأي العام إذا عثرت عليها بحيث تحقن هذه المؤسسة بالصدقية المطلوبة أو بشيء منها على الأقل.
إن الجامعة ليست شيئاً منفصلاً عن الواقع العربي. إنها في رأي البعض مرآة له. ولكننا نود أن نرى الجامعة أكثر من هذا. إن صلتها بالواقع العربي الكلي والإجمالي تمكنها من التعرف إليه على نحو قد يخفى على الكثيرين من أصحاب القرار في الحكومات العربية. هذه الصلة تسمح للجامعة ولأمانتها العامة أن تساهم مساهمة حية وخلاقة في تصويب بوصلة السياسة العربية. إنها مهمة شاقة ولا ريب في ذلك. ولكن للأمين العام من الحكمة والدراية ما يسمح له بتكرار المحاولة من دون بلوغ اليأس.