في كل مقابلاته يكرر مارك ريغيف، الناطق الإعلامي باسم بنيامين نتنياهو، عبارة: دعني أكن واضحا. ولا يوضح تلعثمه إزاء قتل الأطفال. تتهم إسرائيل حماس بأنها تنصب صواريخها بين المدنيين، وتقول إن إنسانيتها تدفعها إلى الطلب من المدنيين المغادرة، ولكن إلى أين…؟
موسى أبو مرزوق في حديثه لـ«الشرق الأوسط» يوم الأحد الماضي ينفي أن تكون حركة حماس في حالة تحدٍ مع مصر.. يقول: فلتدع مصر خالد مشعل للإقامة في القاهرة وهو لن يتردد!
ولا يتأخر أبو عبيدة الناطق باسم «كتائب القسام» في الإطلالة الملثمة بحيث لم يعد يحصى عدد ظهوره على الشاشات وفي الإعلام.
في المعركة الأخيرة، تأكد أن «كتائب عز الدين القسام»، الجناح العسكري لحماس، يترأسه محمد ضيف، وهو الذي قرر توقيت الحرب ويقرر رفض المبادرات. هو الذي يقرر سياسة المرحلة، وليس خالد مشعل، ولا إسماعيل هنية. فقط الأجنحة العسكرية أي «كتائب القسام» و«سرايا القدس» هي صاحبة القرار.
الذي استغل هذا الوضع كان بنيامين نتنياهو، لأن في إسرائيل القيادة السياسية هي التي تقرر تحركات الجيش. وهكذا قرر نتنياهو أن يرد بشكل إيجابي على كل محاولات وقف إطلاق النار، وبالتالي يكسب وقتا، وهذا ما تريده إسرائيل. فالبضاعة التي تطلبها إسرائيل في كل حروبها هي الوقت والدعم الأجنبي.
لعب نتنياهو الدور بجدارة. كانت القيادة السياسية لحماس تحاول الهروب من الواقع.. رفضت المبادرة المصرية.. تعلقت بكل قوتها بالمحور التركي – القطري. في القاهرة التقى ممثلو إسرائيل مع ممثلين عن «الجهاد الإسلامي».. صار دور الحركة في فلسطين أكبر من دورها في الأيام العادية، وذلك بسبب علاقتها القوية مع إيران، وضعف علاقة حماس مع مصر، وبخلاف حماس، لا ينظر إلى الحركة في مصر على أنها جزء من «الإخوان المسلمين»، وبالتالي هي ليست عدوا لمصر وللمصريين.. لاحقا قد تستثمر إيران هذا الدور.
في هذه الأثناء لعب نتنياهو الدور بدهاء، ليس فقط لأن حماس رفضت وقف إطلاق النار، المهم أنه هو من يوافق، وهدفه أن يكسب الوقت، أي البضاعة التي تحتاج إليها إسرائيل، وهنا كانت خطورة أن الجناح العسكري لحماس هو من يدير اللعبة الدموية.
أما الشرارة التي أشعلت الحرب الأخيرة فعليا، فكانت رد الفعل الانفعالي من قبل «كتائب القسام» عندما اكتشفت إسرائيل في 5 يوليو (تموز) الحالي واحدا من الأنفاق الهجومية التي كان حفرها هذا الجناح في مشروع استراتيجي له. اكتشاف هذا النفق وتدميره مع الخطة الاستراتيجية التي يمثلها، إضافة إلى مصرع مقاتلين داخله، دفع بـ«كتائب القسام» إلى الرد بوابل من الصواريخ على نطاق واسع، بما فيها الصواريخ البعيدة المدى. وهكذا يكون الجناح العسكري لحماس هو من اختار توقيت هذه الحرب. وبالنسبة إلى إسرائيل، فإنها عندما تتوفر لها الفرصة لضرب البنية التحتية العسكرية لحماس، وهو ما يُسمى مجازا «بنك الأهداف»، فإن لديها الخطط جاهزة في الأدراج العسكرية، كما أن الفرصة الأخيرة تساعدها في تقويض اتفاق المصالحة الفلسطينية، ودفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقيادته لانتقاد حماس وأفعالها.
في 17 يوليو الحالي، نشرت صحيفة «إنترناشيونال نيويورك تايمز» تفاصيل الهجوم العسكري الإسرائيلي الذي تعده إسرائيل، وفيه تنقل عن يوفال ستينيتز وزير الشؤون الاستراتيجية قوله عن احتمال أن تبدأ إسرائيل حملتها البرية على غزة خلال أيام إذا ما استمر قصف الصواريخ، والهدف تجريد غزة من السلاح، والإطاحة بحماس وتمهيد الطريق لـ«شيء آخر». ليل الاثنين الماضي بدأت أصوات في إسرائيل تطالب جون كيري وزير الخارجية الأميركي بطرح هذا الشرط لوقف الحملة الإسرائيلية.
بدأت الحرب البرية. استمر إطلاق الصواريخ، واستمرت إسرائيل في تدمير ما اكتشفته من أنفاق. بعض الفضائيات العربية أقنع حماس بأنها هزمت إسرائيل، متناسية أن الشعب الإسرائيلي في هذه الحرب صار يميل أكثر إلى اليمين ويدعم حكومة نتنياهو.
بسبب ياسر عرفات انتهى حزب العمل الإسرائيلي، والآن بفضل حماس، فإن دعم حكومة نتنياهو وصل إلى الأقصى. اختارت «كتائب القسام» توقيت الحرب في وقت نسفت فيه حماس كل الجسور مع حلفائها السابقين. وفي حين كانت تنظر إلى مصر محمد مرسي باعتبارها الحامية، فإن النظام القائم برئاسة عبد الفتاح السيسي يعتبر حماس من الأعداء الذين يثيرون المشكلات في سيناء. وضع حماس في العالم العربي والإسلامي خضع لعدد من التغييرات منذ بداية الربيع العربي. دعم الحركة للمتمردين في سوريا ضد نظام بشار الأسد وانضمامها إلى محور «الإخوان المسلمين» برئاسة قطر وتركيا ومصر (مرسي) أدى إلى رفضها من قبل محور المقاومة الذي يضم إيران وسوريا و«حزب الله». في أوائل عام 2012 طردت سوريا قادة حماس، وحتى اليوم لم يجد قادة حماس مقرا دائما لهم (تصريح أبو مرزوق).
إيران أعربت عن استيائها من سياسة حماس فخفضت الدعم المالي للحركة التي هي في أزمة اقتصادية خطيرة، وبينما ارتفعت لديها أسهم حركة «الجهاد الإسلامي»، ترفض إيران بحزم استقبال خالد مشعل، الذي قابله كـ«ترضية» حسين عبد اللهيان مساعد وزير الخارجية الإيراني في 22 مايو (أيار) الماضي في الدوحة. فقدت حماس مصداقيتها بين الموالين لمحور المقاومة، والمعارضين.
ذهبت حماس إلى الحرب ومعها فقط قطر وتركيا.. ثقل الدولتين الآن ضعيف؛ بل على العكس سقطت أسهمهما عند الأميركيين، وهذا بدأت تعاني منه قطر، حيث بدأ الكونغرس الأميركي يتكلم بسلبية عن دورها، والأمر سوف يتطور إلى أكثر من ذلك. أما تركيا، فقد اعتاد الجميع استغلال رجب طيب إردوغان رئيس الوزراء كل المآسي العربية، لكن حماس ظلت تراهن على أنقرة، كالغريق الذي يتمسك بقشة.
التوافق العام في وسائل الإعلام الغربية أن حماس تبحث عن صورة النصر لتبرير المعاناة التي سببتها الصواريخ المتكررة وغير الفعالة للشعب الفلسطيني، وهذا ما يوفر مزيدا من الإصرار للحكومة الإسرائيلية على مواصلة قصفها القاسي الذي لا يفرق والأكثر فعالية.
في ظل الدعم «الصوتي» للقنوات العربية، فرضت حماس شروطها كي تقبل بوقف إطلاق النار: فتح المعابر من جهة مصر وإسرائيل، وإعادة وصول مواد البناء، هذا مرحلة أولى، وعلى المدى الأبعد تريد حماس مرفأ للتجارة مع تركيا ومطارا، فإذا تحقق كل ذلك، تكون «دولة حماس» قد أنشئت.
تعرف حماس أنها لا تستطيع فعل شيء من دون مصر، واختارت الحرب لتحرج مصر وبقية الدول العربية، لكن منذ الربيع العربي تجاوزت كل الدول ما يسمى «الشعور بالإحراج»، كل دولة تريد حماية مصيرها. والشعب الإسرائيلي الآن كله مع نتنياهو الذي حتى الساعة لم يعط الغرب السبب للضغط عليه، وبالتالي هو لن يستجيب للضغوط. هدف الحملة القضاء أو إضعاف حماس وتفكيك البنى التحتية لـ«القسام». عندما كانت صواريخ حماس تسقط على الحدود مع غزة لم يتحرك الإسرائيليون، وعندما سقطت الصواريخ فوق تل أبيب لم يبق يساري واحد يعارض خطة نتنياهو. أما الرئيس الأميركي باراك أوباما فلديه أمور كثيرة (ما كان على حماس السماح للجناح العسكري باتخاذ قرار الحرب) هناك أوكرانيا.. المفاوضات مع إيران.. أفغانستان، لا يريد مشكلات مع الكونغرس، وأعلن أنه يدعم إسرائيل، ويوم الأحد الماضي عندما تحدث كيري على «سي إن إن»، بدا وكأنه نتنياهو.
العواطف الآن جياشة، منذ أكثر من 60 عاما جياشة، تنتظر سقوط الضحايا المدنيين لتثور وكأن الحروب نزهة بحرية. حفر الأنفاق كلف حماس عشرات الملايين من الدولارات وآلاف الأطنان من الإسمنت. كم كانت ستكلف الملاجئ لو فكرت حماس بحماية المدنيين.
أهداف إسرائيل الأبعد من تدمير الأنفاق، رغبتها في إرباك حماس وجعلها تدرك أنها الضعيفة. لن تحتل إسرائيل كل غزة، هدفها عملية محدودة تجعل حماس تدفع مقابلها ثمنا باهظا. تريد السيطرة على عمق ثلاثة كيلومترات من الحدود، بحيث تكون لديها ورقة في مفاوضات وقف إطلاق النار والتسوية اللاحقة، كما أن هذا العمق يسمح لإسرائيل بإقامة منطقة أمنية خالية من أي نشاط لـ«كتائب القسام» فيصبح من السهل عليها منع إعادة بناء الأنفاق.
نشرات الأخبار العربية مع حماس.. الأصوات الحماسية مع حماس، أما الفعل، فإنه لا أحد سينجر إلى حرب اختار توقيتها جناحها العسكري لتوريط كل العرب على حساب الدم الفلسطيني.. عندما يترك القرار لعسكريين، فإنهم يأتون بالبلاء على شعوبهم.