نعرف كيف ولكننا لا نعرف تماما لماذا انقلب الدور التركي “الإسلامي” في السنوات الأربع الأخيرة من مروّج لإسلام معتدل إلى داعم غير معلن لأردأ أنواع التطرف الديني كوسيلة وحيدة لتحقيق النفوذ الجيوبوليتيكي في سوريا والعراق. هل تنقلب الأدوار مرةً أخرى وكيف؟
حتى سنواتٍ قليلةٍ خلت كانت حركةٌ تركيةٌ تعليميةُ الدورِ ومبشّرةٌ بإسلام متنوِّر وتحديثي هي حركة “حزمت” بزعامة فتح الله غولن هي الحليف الطبيعي والفعّال لـ “حزب العدالة والتنمية” وزعيمه رجب طيّب أردوغان داخل تركيا وخارجها. فيما كانت القوات التركية جزءاً من تحالف عسكري غربي يقاتل قوات “طالبان” الإسلاميّة المتطرفة في أفغانستان.
الآن انقلبت الأمور رأساً على عقب. فبينما تندلع حربٌ ضروس بين أردوغان وفتح الله غولن تبلغ حداً غير مسبوق بين حركتين إسلاميّتين تركيّتين تحولت الشرطة التركية مسرحا لها عبر توقيف عدد كبير من ضباطها المتهٓمين بالتعاون مع “حزمت”، تبدو السياسة التركية في تواطؤٍ صامت مع تنظيم “داعش”، تواطؤٍ عنوانه الوحيد الضمني من الزاوية التركية هو السيطرة على الورقة السنّية في العراق مقابل السيطرة الإيرانية على الورقة الشيعية.
هكذا يتحوّل عهد رجب طيِّب أردوغان إلى عهد “الغاية تبرّر الوسيلة” أيا كانت هذه الوسيلة. فيصبح عدواً ضارياً لواحدة من أكثر الحركات الإسلامية اعتدالا من حيث تبنّيها لفلسفة أولوية التعليم الحديث أي الغربي لنخب تركيا والمسلمين فيما يمارس سياسة عملية أي جغرافية-سياسية تتيح لإحدى أبشع وأكثر حركات الإسلام السياسي تعصباً وتخلفا أن تنفرد حتى الآن بحكم مناطق شاسعة من الشرق السوري والشمال العربي العراقي هي تنظيم “داعش”.
رئيس الأركان التركي السابق والخارج حديثا من السجن قال مؤخّراً أن رئيس الوزراء لم يفعل شيئاً عندما حذره من أنشطة حركة غولن. ما يقوله كبير الجنرالات الأتراك السابق له تفسير واحد ووحيد هو أن حركة غولن كانت أبرز وأهم حلفائه في مواجهة الوصاية العسكرية على الدولة وعندما انتهى من ذلك ارتدّ عليها في خطوة براغماتية مثيرة.
لكن الجانب الذي يثير الشبهات من براغماتية أردوغان هو الصعود المفاجئ لحركة “داعش” والذي وصل الى حد سيطرتها على مناطق الشمال والوسط العربيين في العراق وهو أمر مستحيل من دون غض نظر المخابرات التركية (MIT) التي أصبح رئيسها هاكان فيدان المقرّب من أردوغان مرشحاً محتملاً لمنصب وزير الخارجية بعد تولّي أردوغان المحتمل لرئاسة الجمهورية في أول انتخابات شعبية لهذا المنصب في تاريخ الجمهورية.
حساب أردوغان والمشاركين العرب معه في توفير ظروف اندفاعة “داعش” العراقية التي لا يمكن أن تتم من دون الانطلاق من وراء الحدود مع تركيا هو حساب جيوبوليتيكي يعتبر أن المطلوب هو وضع اليد على المناطق السنية في العراق وحصر النفوذ الإيراني بالمناطق الشيعية وتهديد تواصل خط طهران بغداد دمشق.
المشكلة أن كلفة اللعبة كبيرة لأنها تؤدي إلى إغماض العين عن “داعش” أبشع وأخطر وأكثر إفرازات الإسلام السياسي أذىً منذ الولادة السياسية لهذا الإسلام السياسي مع انتصار الثورة الإيرانيّة.
الغامض هو لماذا لا يلجأ المستنكرون لظاهرة “داعش” في مراكز صنع القرار الغربي والتركي إلى خطوات عملية لإنهاء هذه الظاهرة التي لا شك بهشاشتها العسكرية فيما لو توفّرت إرادة سياسية لإنهائها لدى الدول المعنية. فالجيش التركي يستطيع عمليا أن ينهي “داعش” في مدة محدودة لو شاء ذلك وربما في 24 ساعة لو توفرت إرادة سياسية في أنقرة وواشنطن تحديداً.
السؤال هل يكون تفاقم وضعية “داعش” مقدمة لتدخُّل تركي باتجاه الموصل يحظى بموافقة خارجية واسعة تشبه بشكلٍ ما التغطية الواسعة التي حصل عليها الرئيس حافظ الأسد عام 1976 لتدخّل الجيش السوري في لبنان. وقتها تحت شعار حماية المسيحيين اللبنانيّين وإنهاء الحرب الأهلية. أما اليوم في العراق فهل سيكون الجيش التركي “مطلوبا” لإنهاء فظاعات “داعش” وآخرها فظاعة طرد المسيحيين من الموصل؟
الواقعية الشديدة التي تعيشها السياسة التركية مع المحيط الجنوبي لتركيا هي واقعية بشعة: دعم أي تطرف يخدم الموقع التركي في الصراع على منطقة متحلّلة. فهل نشهد تبدلاً نحو مرحلة جديدة مختلفة من الواقعية التي- دعونا نسمّها – الواقعية الخطرة؟
المهم أن “داعش” رغم كل هولها ليست سوى نمرٍ من ورق. الكلام الحقيقي هو مع الدول وعن الدول.